فالطريقة الأولى طريقة الأصول والمتابعات، والاحتجاج والشواهد: يذكر الأصل والحجة أولاً، وذلك حين تكون رجاله في الطبقة الأولى، ثم قد يُتبعه بمتابعٍ، أو شاهد، أو بهما معاً، وفي بعض رجاله كلام؛ وهذا هو الأمر المشهور عن البخاري ومسلم؛ ورواية المتكلَّم فيه حينئذ: قد تكون مما ضبطه هذا الراوي، فيرويها مسلم - مثلاً – ويسكت؛ وقد يكون فيها شيء فيشير إليه، كما أشار إلى رواية شريك لحديث الإسراء والمعراج، وقال: (وقدم فيه شيئاً وأخّر، وزاد ونقص) (6).
أما الطريقة الثانية: فقد يذكر أول الباب حديثاً في لفظه بعضُ الشيء، ثم يتبعه باللفظ السليم، وينبِّه الإمام مسلم على هذا الشيء (الوهم) ويؤكد عليه، كما وعد بقوله السابق: (سنزيد – إن شاء الله تعالى – شرحاً وإيضاحاً في مواضع من الكتاب عند ذكر الأخبار المعللة إذا أتينا عليها).
فهو يذكر المتن الذي فيه لفظة معللة أولاً، ثم يرويه من وجه أو من وجوه أخرى سليمة من هذه العلة، وينبِّه إلى الفرق بين اللفظين أو محل الوهم؛ وهذا لا يكون منه إلا في المتون، لا في الأسانيد.
وأكرر باختصار: إذا كان (المأخذ) في الرجال والأسانيد: قدَّم السليم وأخّر المعلَّل؛ وإذا كان (المأخذ) في المتون: قدم المعلَّل وأخر السليم.
والوجه الأول هو المشهور، ولا منازع فيه [كذا قال].
أما الوجه الثاني فإني لم أر من لفت النظر إليه وأوضحه.
ومعاذ الله أن أريد في كلامي الطعن في صحة كتاب الإمام مسلم، إنما أريد تحقيق مراده؛ فهو أراد لكتابه الصحةَ، وبيان المعلَّل؛ وبعبارة أخرى: أراد أن يكون كتابه صحيحاً مسنَداً معلَّلاً، على طريقة الجهابذة، لا على طريقة السرد والرواية، وصرّح بأنه يزيد الأمر شرحاً وإيضاحاً عند ذكر الأخبار المعلَّلة حين ذكره لها ووصوله إلى روايتها في الأبواب؛ فزعمُ من يزعم عليه أنه يحكم بصحة هذه المعلَّلات أيضاً: خطأ كبير وتقويلٌ له ما لم يقلْه، وإقحام للأوهام في دائرة السنة النبوية الصحيحة، وتعريضٌ للإمام نفسه للردّ عليه من قِبل الأئمة الآخرين المعاصرين له واللاحقين.
وكما أن المتابعات والشواهد تزيد الأصول والاحتجاجات صحةً وقوةً في أسانيدها، ووضوحاً وفهماً وفقهاً في متونها، فكذلك المتون السليمة التي يأتي بها مسلم تالية للمتون المعلَّلة، هي تنقحها وتصححها، وتزيدها سلامةً في فقهها وفهمها؛ ومن أمعن النظر في (صحيح مسلم) شهد له بالإمامة حديثياً وفقهياً وحسنَ سبْكٍ وتصنيفٍ.
قال الزركشي رحمه الله في (النكت على ابن الصلاح) وهو يتحدث عن المفاضلة بين الصحيحين ومزايا كلٍّ منهما: (اختص مسلم ... بجمعه طرق الحديث في مكان واحد، إسناداً ومتناً، فيذكر المجمَل ثم المبيِّن له، والمشكِل ثم الموضِّح له، والمنسوخ ثم الناسخ [له]، فيسهل على الطالب النظر في وجوهه).
وأدخل على ذكر الأمثلة للطريقة التي أريد بيانَها ----)؛ ثم شرع بذكر الأمثلة.
تنبيه: نقلت الكلام بنصه، والهوامش له وكذلك النقط الدالة على الحذف، وما كان بين مربعين فهو زيادة مني.
ــــــــــ
(1) ص4 - 8 مقتصراً على محل الشاهد من كلامه، مع المحافظة على لفظه.
(2) صفحة 7؛ وأقصى حد الكهولة: الحادية والخمسون، ومسلم جاوزها قليلاً.
(3) 1/ 86.
(4) صيانة صحيح مسلم ص90، شرح النووي 1/ 23.
(5) 1/ 86.
(6) 1/ 148 (262).
ـ[ابن وهب]ــــــــ[20 - 11 - 07, 05:16 م]ـ
بارك الله فيكم ونفع بكم
لعل اطلاق القول بأن القشيري يقدم المتون المعللة محل بحث
وهذا مثال
(حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَمْرٌو النَّاقِدُ كِلَاهُمَا عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ وَعَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ فَقَالَ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ قَالَ فَخَرَجَ شِيصًا فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ مَا لِنَخْلِكُمْ قَالُوا قُلْتَ كَذَا وَكَذَا قَالَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ)
هذا الحديث أخره مسلم
¥