الاتساع بالمعنى الأخير هو المراد عندنا ..... غير أن نظرنا ليس إلى الاحتمالات المعجمية للألفاظ أو تعدد مصاديقها في الخارج- كما في تفسير الأقسام القرآنية مثلا-بل نظرنا -بالقصد الأول-فقط إلى التعدد الدلالي الناشيء عن الاحتمالات التركيبية.
وقد بلغ مطلع سورة البقرة –في تعدد الاحتمال التركيبي-شأوا بعيدا تندق دونه كل أعناق البشر ..... فهو الإعجاز في التوسع التركيبي لا ريب.
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (2) سورة البقرة
هي سبع كلمات فقط ... لكنها من المرونة بحيث تقبل أن تتخذ أوضاعا تركيبية متعددة .... فالكلمة الواحدة يمكن في أي لحظة أن تنفصل عن أختها-أو تتصل بها- لاعتبارات تركيبية فيتحصل من الفصل والوصل تنوع دلالي مذهل،وإعجاز في صورة ملموسة لا تنكر عند المنصفين.
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}
أولا-كم عدد الجمل في الآية؟
لو قلت:ثلاث جمل لأصبت.
لو قلت: جملتان لأصبت.
لو قلت جملة واحدة لأصبت.
لو قلت بها جميعا-على الشمول أو على البدل- لأصبت أيضا!!!
1 - التركيب الثلاثي:
الآية من هذا المنظور المختار مؤلفة من ثلاث سبائك:
-أ-
ذَلِكَ الْكِتَابُ: جملة ابتدائية تامة.
لاَ رَيْبَ فِيهِ: جملة استئنافية تامة.
هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ: جملة استئنافية تامة.
الجملة الأولى: اسم الإشارة فيها مبتدأ، و"الكتاب" خبره.
"اللام" الداخلة على "كتاب" هي لاستغراق خصائص الجنس وصفاته ..
وينبغي في هذا المقام التمييز بين اللام الاستغراقية التي تكون لاستغراق جميع افراد الجنس والتي من ضوابطها أن تخلفها "كل"حقيقة، واقعية، أو عرفية، وبين هذه التي أريد بها استغراق خصائص الجنس وصفاته مبالغة في المدح-أو الذم- والتي من ضوابطها أن تخلفها "كل" مجازا وتسمى ب "كل الإحاطية".ومثاله:"زيد الرجل"وتريد أنه جمع في نفسه ما تفرق في غيره من معاني الرجولة. أو أن "زيدا هو من يستحق أن يوصف بالرجولة.
ذلك الكتاب .... أي إن كان في الوجود شيء يستحق أن يسمى كتابا فهو هذا.
واحتمال التوسع في دلالة اللام وارد، فقد تناسب العهد الحضوري والعهد الذهني معا، ومدار الأمر على توسع آخر في دلالة اسم الإشارة:
-فقد قيل المراد بقوله "ذلك الكتاب" ما قد نزل من القرآن قبل سورة البقرة-ما نزل بمكة مثلا-فيكون العهد حضوريا لأن نزول القرآن بمثابة حضوره.
-وقد قيل اللام للعهد الذهني ....
لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان موعودا من قبل بكتاب ... قال ابن كثير: وفي حديث عياض بن حمار في صحيح مسلم يقول الله تعالى: [إني مبتليك ومبتل بك ومنزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظانا] ....
ولما نزل بعضه قال الله تعالى هذا هو الكتاب الذي كنت وعدتك به.
أو لأن "ذلك"إشارة إلى القرآن الذي في السماء لم ينزل بعد -على رأي الكسائي-
وقيل إن الله كان وعد أهل الكتاب أن ينزل على محمد كتابا فالاشارة إلى ذلك الوعد ....
حاصله أن التوسع شمل اسم الاشارة بالنظر إلى حقيقة المشار إليه كما شمل اللام بالنظر إلى أنها للعهد الذهني أوللعهد الحضوري أولاستغراق خصائص الجنس.
الجملة الثانية:
"لا ريب فيه" .....
جملة اتسعت من جهتين:
-من جهة التركيب إذ احتملت الاعتراض والاستئناف.
-ومن جهة التداول إذ احتملت الإخبار والإنشاء ...
فمعنى "لا ريب فيه"إخبارا: أن القرآن –في نفس الأمر-لا شك فيه وإن حصل الشك في نفوس المبطلين .... أو إن المرتابين في القرآن من الكفار لو رجعوا إلى أنفسهم وتجردوا من أهوائهم وتعصبهم لظهرت لهم الحقيقة التي يدعون خفاءها أو يريدون إخفاءها.
ومعنى "لا ريب فيه"إنشاءا: النهي عن الارتياب في القرآن فكأن المعنى:
ذلك الكتاب الذي لا ينبغي فيه الارتياب ..... والجملة الخبرية في العربية قد يراد بها الطلب ..... كقوله صلى الله عليه وسلم "الأئمة من قريش"فالأمر في صورة الخبر.ولا يجوز أن يكون الخبر حقيقيا لأنه يلزم عنه الكذب ..... فكثير من أئمة المسلمين من غير قريش ... فاللازم محال والملزوم كذلك.
الجملة الثالثة:
هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ......
جملة تامة مبتدؤها مقدر يعود على القرآن ..... وحذف المبتدأ المعروف سائغ في العربية وقد جاء منه في القرآن شواهد كثيرة منها:
¥