وثمة مفارقات كثيرة في كل زوج بحيث ينسى معها وحدة الاشتقاق فلا يدرك إلا التنافر:
لَا أَعْبُدُ /مَا تَعْبُدُونَ:
1 - نفي في مقابل إثبات.
2 - مفرد في مقابل جمع.
وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ/ مَا أَعْبُدُ
حافظت على التقابلين السابقين مع إضافة تقابل ثالث:
3 - الاسمية في مقابل الفعلية.
وَلَا أَنَا عَابِدٌ/ مَا عَبَدْتُمْ
احتفظت بكل التقابلات مع إضافة تقابل رابع على "الزمنية":
4 - الحاضر (أو المستقبل) في مقابل الماضي.
تصاعد وتيرة هذه التقابلات مع تأكيدها هو الحامل الشكلي لمعنى المفاصلة الذي هو أحد المقاصد الكبرى للسورة الكريمة ..
ولنا أن نلحظ هذه المفاصلة على ثلاث مراتب:
-فعلى صعيد الزمن نلحط في المشروع الفكري القرشي عرض مبدأ التآلف مستقبلا ...
قال الشيخ ابن عاشور:
"لأنهم ما عرضوا عليه إلا أن يعبد آلهتهم بعد سنة مستقبلة "
فكان الرد حاسما فاصلا فلم يكتف برفض الاتلاف المعروض في زمنه بل قرر الاختلاف مع الإمعان في مده إلى كل وحدات الزمن:
حاضرا: لَا أَعْبُدُ /مَا تَعْبُدُون
وماضيا: وَلَا أَنَا عَابِدٌ/ مَا عَبَدْتُمْ
ومستقبلا: وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ/ مَا أَعْبُدُ ...
(ملاحظة: رجحنا أن لا تكون عبارة "وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ "تكريرا لسابقتها وسندنا في الترجيح قاعدة تفضيل التأسيس على التوكيد فيحمل أحدهما على الحاضر والآخر على المستقبل مادامت صيغة اسم الفاعل تحتمل الزمنين معا .. وعلى القول بالتكرير يكون المعنى هو تأكيد المفاصلة وعلى القول بالتأسيس يكون المعنى توسيعها فالمسألة مسألة كم وكيف)
-التعبير ب"ما"-أربع مرات-أفسح المجال لتقرير المفاصلة، بلفظ واحد، على صعيدين،وذلك تبعا لاعتبارها موصولة أو مصدرية.
قال السمين الحلبي-رحمه الله-:
«ما» في هذه السورةِ يجوزُ فيها وجهان، أحدُهما: أنها بمعنى الذي. فإنْ كان المرادُ الأصنامَ - كما في الأولى والثالثة - فالأمرُ واضحٌ لأنهم غيرُ عقلاءَ. و «ما» أصلُها أَنْ تكونَ لغيرِ العقلاءِ. وإذا أُريد بها الباري تعالى، كما في الثانيةِ والرابعةِ، فاسْتَدَلَّ به مَنْ جوَّز وقوعَها على أولي العلمِ. ومَنْ مَنَعَ جَعَلَها مصدريةً. والتقديرُ: ولا أنتم عابدون عبادتي، أي: مثلَ عبادتي. وقال أبو مسلم: «ما» في الأَوَّلَيْن بمعنى الذي، والمقصودُ المعبودُ و «ما» في الأخيرَيْن مصدريةٌ، أي: لا أَعْبُدُ عبادتَكم المبنيَّةَ على الشكِّ وتَرْكِ النظرِ، ولا أنتم تعبدون مثلَ عبادتي المبنيةِ على اليقين. فتحصَّل مِنْ مجموعِ ذلك ثلاثةُ أقوالٍ: أنها كلَّها بمعنى الذي أو مصدريةٌ، أو الأُوْلَيان بمعنى الذي، والأَخيرتان مصدريَّتان ولِقائلٍ أَنْ يقولَ: لو قيل: بأنَّ الأولى والثالثةَ بمعنى الذي، والثانيةَ والرابعةَ مصدريةٌ، لكان حسناً حتى لا يَلْزَمَ وقوعُ «ما» على أولي العلمِ، وهو مقتضى قولِ مَنْ يمنعُ وقوعَها على أولي العلمِ كما تقدَّم.انتهى.
كيفما كان فالمفاصلة مزدوجة:
مفاصلة في ذات المعبود –اعتبارا للموصولية-
ومفاصلة في منهج العبادة-اعتبارا للمصدرية-
هذه هي-والله- المشقشقة ..
قال ابن تيمية: وروي قتادة عن زُرَارَة بن أوفي: كانت تسمى: [المقشقشة]. يقال: قشقش فلان، إذا برئ من مرضه، فهي تبرئ صاحبها من الشرك.
والله أعلم.
ـ[رأفت المصري]ــــــــ[03 - 06 - 08, 01:30 م]ـ
أبا عبد المعزّ .. جزاكم الله خيرا على هذا العرض التفسيري الرائق، لكن:
ألا تظنّ أن ممارسة السياسة - بضوابطها الشرعية: ضرورة بشرية وفريضة شرعية.
أظن أن إطلاق ذمّ السياسة ليس بالأمر الموفق، فثمّة ما يسمى بالسياسة الشرعية، تكلم عنها فقهاؤنا، وأصلوا لها أيما تأصيل، منهم:
الماوردي في الأحكام السلطانية، وأبو يعلى الفراء في الأحكام السلطانية، والطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم، والسياسة الشرعية لشيخه ابن تيمية، وأفضل وأخطر مما ذكر جميعه كتاب الجويني:
"غياث الأمم في التياث الظلم" المسمى بِـ "الغياثي" ..
فلماذا نذم السياسة وهي - في تعريف فقهائنا -: سياسة الدنيا بالدين؟
أنا أعلم أنك حين تذم السياسة لم تقصد هذا المعنى، لكن الألفاظ قوالب للمعاني!
ـ[رأفت المصري]ــــــــ[03 - 06 - 08, 01:54 م]ـ
أضيف تعليقا آخر - من بعد إذنكم -، هو توضيح لا أكثر، حتى لا يتوهّم القارئ غير ما قصده الكاتب حفظه الله تعالى.
غنيّ عن الذكر أن السياسة والدين فيهما جانب مرونة تُرك للتقادير الواقعية، وجانب آخر هو من إطار الثوابت التي لا يُنازع فيها.
وبناء على ذلك ينبغي أن يُفهم الكلام وعليه يُحمل.
فالسورة إنما تتكلم عن جانب لا مرونة فيه، ولا حيز فيه للتفاوض ولا للتقارب أو الالتقاء في نقطة بين بين.
وكذلك ينبغي أن يكون العمل السياسي حين يتعلق بالثوابت والركائز والمبادئ.
أما إن تعلق بجانب بدت منه المرونة فالأمر فيه أوسع، ومثال ذلك ما حصل في صلح الحديبية مثلا من شواهد عديدة تصلح أن تذكر في هذا المقام.
ومثاله أيضا: ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل عبد الله بن أبي للمصلحة المقتضية ذلك "لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه".
وتغيير عمر لاسم الجزية على من فرض عليهم ذلك من النصارى استجابة لمطلبهم، وتقديرا لتحفظهم على الاسم لا على المسمى.
وتقبيل عبد الله بن حذافة السهمي لرأس ملك الروم، وغير ذلك من الأمثلة.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
¥