والوجه الرَّابِع: أَنْ يكون معطوفاً على "ما" في "بما أنزل" [29]، ويكون بِذَلِكَ {الْمُقِيمِينَ} في موضع خفض كسابقيه, على المستوى الإعرابي, إِلاَّ أَنَّهُ يختلف أَيْضَاً عنهما في الوجه المعنوي؛ إذ التَّقْدِيْر: "يؤمنون بما أنزل إلى محمّد r, وبالمقيمين الصلاة" [30] , ويعزى هَذَا -كما ذكر مكّيّ- للكسائيّ [31]، وهو عند الطَّبَرِيّ أولى الأقوال بالصّواب على أَنَّ يوجّه معنى المقيمين الصّلاة إلى الملائكة [32].
والوجه الخامس: أَنْ يكونَ معطوفاً على "الكاف" في "قبلك" [33]، وفيه أَيْضَاً تشابه في أَنَّهُ في موضع خفض على المستوى النَّحْويّ, واختلاف على المستوى الدّلالي؛ إذ المعنى "ومن قبل المقيمين الصلاة" [34] , ويعني بهم الأنبياء [35]، وذكرَ الإمام القُرْطُبِيّ [36] من القُدَمَاء، وتبعه السّيّد الطَّبَاطبائِيّ [37] من المُحْدَثِيْنَ, أَنَّ الأَوْجُه الأربعةَ الأخيرةَ السّابقَ ذكرُها لا تجوز عند البَصْرِيِّيْنَ؛ لأَنَّهُ لا يعطف بالظَّاهِر على المضمر المخفوض من غير إعادة الجارّ.
والوجه السَّادِس: أَنْ يكون معطوفاً على الظَّرْف نفسِهِ [38] , ويكون على حذف مضاف؛ أي "ومن قبل المقيمين" [39] , فحذف المضاف, وأقيم المضاف إليه مقامه [40].
ورأى جمهور العُلَمَاء أَنَّ مذهب سِيْبَوَيْهِ، الَّذِي أخذه عن أستاذِهِ الخليل، هو الأحسن والأسلم والأنسب لمقام النّصّ، وسأكتفي بما قاله القُرْطُبِيّ: «وأصحُّ هَذِهِ الوجوهِ قولُ سِيْبَوَيْهِ، وهو قولُ الخليل» [41]، واختار الطَّبَرِيّ، وغيره رأيَ الكِسَائِيّ [42]، الَّذِي رأى فيه كثيرٌ مِنَ العُلَمَاء أَنَّهُ يلي رأي سِيْبَوَيْهِ قوَّةً، وانسجاماً مع قواعدِ اللُّغَة، وأصولِها.
ولَعَلَّ إدراك السّبب في تقديم بعض الكلمات على بعض في بعض الآيات, أو تأخيرها -كما في هَذِهِ الآية, والآيات الَّتِي سبقتها- يعود إلى ضرورة معرفة المناسبات بين الآيات, والرّوابط بين الكلمات والعبارات الَّتِي تردُ فيها، يقول الزّركشيّ: «وَاعْلَمْ أَنَّ المناسبة علم شريف, تحرَزُ به العقول, ويُعرف به قدر القائل فيما يقول ... ولهَذَا قيل المناسبة أمر معقول، إِذَا عرض على العقول تلقّته بالقبول ... ومرجعها -والله أعلم- إلى معنىً ما رابط بينهما عامّ أو خاصّ, عقليّ أو حسّيّ أو خياليّ, وغير ذَلِكَ من أنواع العلاقات أو التّلازم الذهنيّ, كالسّبب والمسبّب, والعلّة والمعلول, والنّظيرين والضّدّين, ونحوه؛ أو التّلازم الخارجيّ, كالمرتّب على ترتيب الوجود الواقع في باب الخبر، وفائدته جعل أجزاء الكلام بعضها آخذاً بأعناق بعض, فيقوى بِذَلِكَ الارتباط, ويصير التَّألِيف حاله حال البناء المحكم المتلائم الأجزاء» [43].
والله من وراء القصد، والله أعلم، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين
[1] سورة النساء، الآية 162.
[2] سِيْبَوَيْهِ، عمرو بن عثمان، الكتاب، تحـ. عبد السّلام هارون، ج2، دار القلم، القاهرة، 1966م، ص58.
[3] العُكْبَرِيّ، أبو البقاء، إملاء ما منّ به الرحمن من وجوه الإعراب والقِرَاءَات، ج1، ص202.
[4] الحَلَبِيّ، أحمد بن يوسف، الدّرّ المصون في علوم الكتاب المكنون، ج4، ص153.
[5] الزَّمَخْشَرِيّ، محمود بن عمر، الكشّاف، ج1، ص623.
[6] سِيْبَوَيْهِ، عمرو بن عثمان، الكتاب (دار القلم)، ج2، ص57.
[7] هو غيّاث بن غوث بن الصّلت بن طارقة بن عمرو، أبو مالك (-90هـ)، شاعر أمويّ، مِنْ بني تغلب، مِنْ شعراء النّقائض، وهو أحد الثَّلاثَة المُتَّفق على أنّهم أشعرُ أهل عصرهم (جرير، والفرزدق، والأخطل)، له ديوان شعر. الزّركليّ، خير الدِّين، الأعلام، ج5، ص123.
[8] البيتان في "الكتاب". سِيْبَوَيْهِ، عمرو بن عثمان، الكتاب (دار القلم)، ج2، ص56.
والنواجذ: أقصى الأضراس، وباسل: شجاع، وذكر: شديد، والغمر: الماء الكثير، والميمون طائرُهُ: الَّذِي يُتَبَرَُّّك فيه. وهما في ديوانه. الأخطل، غيّاث بن غوث، الدِّيوان، ص167 - 169.
[9] سِيْبَوَيْهِ، عمرو بن عثمان، الكتاب (دار القلم)، ج2، ص58.
[10] سورة البقرة، الآية 177.
[11] سيبوبه, عمرو بن عثمان, الكتاب (دار القلم) , ج2, ص58.
[12] سورة النساء، الآية 162.
[13] نمير: قبيلة من بني عامر, وغاويها: مغويها؛ أي باعثها على الغيّ، والظّاعنون: المسافرون.
¥