ومنع المُبَرِّد ذَلِكَ حَتَّى في الشعر, وذكر ابن هِشَام: «أَنَّ الَّذِي مَنَعَهُ المُبَرِّدُ فِي الشِّعْرِ, أَجَازَهُ الكِسَائِيّ فِي الكلامِ, لَكِنْ بِشَرْطِ تَقَدُّمِ {قُل} , وَجَعَلَ مِنْهُ {قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِيْنَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ}؛ أي ليقيموها» [7] , وَكَذَلِكَ أجازه الزَّمَخْشَرِيّ في كشّافه, بقوله: «ويجوز أَنْ يكونَ {يُقِيمُواْ} و {يُنفِقُواْ} بمعنى "ليقيموا ولينفقوا", ويكون هَذَا هو المقول, قالوا: وإِنَّمَا جاز حذف اللام؛ لأَنَّ الأمر الَّذِي هو {قُل} عوضٌ منه, ولو قيل "يقيموا الصلاة, وينفقوا" ابتداء بحذف "اللام", لم يجز» [8] , وإلى قريب من هَذَا نحا ابن مَالِك, فقد جعل حذف هَذِهِ "اللام" على أضرب: قليل, وكثير, ومتوسّط؛ فالكثيرُ أَنْ يكونَ قبله قولٌ بصيغة الأمر كالآية السّابقة, والقليلُ أَلاَّ يتقدَّمَ قول كقوله "محمّدُ تفدِ" السّابق، والمتوسّطُ أَنْ يتقدَّمَ بغير صيغة الأمر [9]، وَعَلَى هَذَا الوجه يكون تقدير الآية "قل لعبادي الَّذِيْنَ آمنوا ليقيموا الصلاة, ولينفقوا ممّا رزقناهم ... ", وهو تقدير حسن ظاهر, ينسجم معناه مع ما ذهب إليه المُفَسِّرُونَ في تأويل الآية الكريمة.
والوجه الثَّانِي: أَنَّ {يُقِيمُواْ} مجزوم على جواب: {قُل} [10] , على أَنْ يكونَ معناه "بَلِّغْ", أو "أدِّ الشّريعةَ, يقيموا الصّلاةَ" وهو قول ابن عَطِيَّة [11]. وهو عند الأخفش [12] جواب {قُل} من غير تضمين؛ أي: "إِنْ تقل لهم يقيموا", وهو عند المُبَرِّد [13] ليس جواباً لـ {قُل} وإِنَّمَا جواب "قلْ" محذوف تقديره "قل لعبادي أقيموا يقيموا", وهو أظهر الأَوْجُه عند أبي البَرَكَات بن الأَنْبَارِيّ [14] , وابن الشَّجرِيّ [15] الَّذِي ذهب إلىأَنَّ ما يدلّ على مثل هَذَا الحذفأَنَّ فعل القول لا بدّ له من جملة تحكى به، وجاء في البحر المحيطأَنَّ المُبَرِّد تبع سِيْبَوَيْهِ في هَذَا القول, يقول أَبُو حَيَّان: «وقيل التَّقْدِيْر: "إِنْ تقل لهم أقيموا يقيموا", قاله سِيْبَوَيْهِ, فيما حكاه ابن عَطِيَّة» [16].
وذكر أبو البقاء في "الإملاء" أَنَّ تقديرَ المُبَرِّدِ فَاسِدٌ لِوجهَيْنِ: «أحدهما: أَنَّ جواب الشّرط يخالف الشّرط إمّا في الفعل، وإمّا في الفاعل, وإمّا فيهما؛ أمّا إِذَا كان مثله في الفعل والفاعل, فهو خطأ, كقولك: قُمْ تَقُمْ, والتَّقْدِيْر على ما ذكر في هَذَا الوجه: "إِنْ يقيموا يقيموا"؛ والوجه الثَّانِي: أَنَّ الأمر المقدّر للمواجهة, و"يقيموا" على لفظ الغيبة, وهو خطأ, إِذَا كان الفاعل واحداً» [17] , وَكَذَلِكَ ضعّف تقدير المُبَرِّد كلٌّ من أَبِي حَيَّان [18]، والرّضي [19].
ورأى السَّمِيْن الحَلَبِيّأَنَّ الإفساد الأَوَّل قريب, لكنّ الثَّانِي ليس بشيء؛ «لأَنَّهُ يجوزُ أَنْ يقول: "قل لعبدي أطعني يطعْك", وَإِنْ كان للغيبة, بعد المواجهة باعتبار حكاية الحال» [20].
وجاء في "التّبيان في إعراب القرآن"أَنَّ هناك من ردّ أيضاً، ما ذهب إليه الأَخْفَش من تقدير"إِنْ تقل لهم يقيموا", وذَلِكَ -كما يقول أبو البقاء-: «لأنّ قول الرَّسُول r لهم لا يوجبْ أَنْ يقيموا, وهَذَا عندي لا يبطل قوله؛ لأَنَّهُ لم يرد بالعباد الكفّار بل المؤمنين, وَإِذَا قال الرَّسُول لهم "أقيموا الصّلاة أقاموها", ويدلّ على ذَلِكَ قوله: {لِعِبَادِيَ الَّذِيْنَ آمَنُواْ}» [21].
والوجه الثَّالِث: أَنَّ الأمر معه شرط مقدّر, وهو مذهب الفَرَّاء [22] , تقول "أَطِعِ اللهَ يدخلْك الجنَّةَ"؛ أي "إِنْ أطعته يدخلك الجنّة" [23]، والفرق بين هَذَا وبين ما ذهب إليه ابن عَطِيَّة [24] أَنَّ الأخير ضمّن فيه الأمر نفسه معنى الشّرط, وفي هَذَا قدّر فعل الشرط بعد فعل الأمر من غير تضمين [25].
¥