والوجه الرَّابِع: أَنَّ {يُقِيمُواْ} مضارع صُرِفَ عن الأمر إلى الخبر -حملاً على التّوهّم أو المعنى- ومعناه "أقيموا"، قاله الفَارِسِيّ [26] , وذكر السَّمِيْن الحَلَبِيّأَنَّ هَذَا مردودٌ؛ «لأَنَّهُ كان ينبغي أَنْ يثبت نونه الدّالّة على إعرابه, وأجيب عن هَذَا بِأَنَّهُ بني لوقوعه موقع المبنيّ, كما بني المنادى في نحو "يا زيدُ" لوقوعه موقع الضّمير» [27]، وقيل إِنَّهُ حذفت نونه تخفيفاً [28]، على حدّ حذفها في قول النبيّ r: « لا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا» [29]، والقول الرّاجح عند الدُّكْتُور الحموز، في مثل هَذَا التَّقْدِيْر أَنَّهُ من باب الحمل على التوهّم أو التخيّل أو المعنى [30] الَّذِي يجوز في غير باب العطف, كما يجوز في باب العطف.
والوجه الخامس: أَنْ يكونَ: {يُقِيمُواْ} منصوباً بإضمار "أَنْ"؛ أي "أَنْ يقيموا", وهو قول بعض النَّحْوِيِّيْنَ من غير البَصْرِيِّيْنَ [31] , وذكر المُبَرِّد: «أَنَّ البَصْرِيِّيْنَ يأبون ذَلِكَ، إِلاَّ أَنْ يكونَ مِنْهَا عوض نحو "الفاء والواو" ... » [32]، ونظير هَذَا الوجه قول طرفة [33]:
30 - أَلاَ أَيُّهَذَا الَّلائِمِيّ أَحْضُرَ الوَغَى وَأَنْ أَشْهَدَ الَّلذَّاتِ، هَلْ أَنْتَ مُخْلدِي.
فَمَنْ رأى النَّصْب في الآية على إضمار "أَنْ", رآه هنا في نصب "أحضرَ" [34].
وبعدُ, فيمكننا أَنْ نُرَجِّحَ من هَذِهِ الأقوال قول الأخفش؛ لأَنَّهُ يخلو من التَّقْدِيْر, ولَعَلَّ قول الكِسَائِيّ فيأَنَّ الفعل مجزوم بلام الطلب المحذوفة أظهر من غيره, في انسجامه مع المعنى من وراء الآية الكريمة.
وبناءً على الأقوال السّابقة مجتمعةً, يكون في معمول "قُلْ" ثلاثة أَوْجُه, أحدها الأمر المقدّر؛ أي "قل لهم أقيموا يقيموا", والثَّانِي أَنَّهُ نفس {يُقِيمُواْ} , على ما قاله ابن عَطِيَّة, والثَّالِث أَنَّهُ الجملة من قوله {اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ} , وقاله أَيْضَاً ابن عَطِيَّة [35]، وَرَأَى السَّمِيْن الحَلَبِيّأَنَّ فيه تفكيكاً للنّظم, وَجَعْلَ {يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ} إلى آخره، مفلتاً ممّا قبله وبعده, أو يكون جواباً فصل به بين القول ومعموله, لَكِنَّهُ لا يترتّب على قول ذَلِكَ إقامة الصلاة, والإنفاق, إلاّ بتأويلٍ بعيدٍ جدّاً [36].
ولَعَلَّ الاختلاف بين العُلَمَاء في توجيهاتهم لأعاريبهم في هَذِهِ الآية وما سبقها، خير دليل علىأَنَّ دراسة النَّحْو على أساس المعنى ضرورة ملحّة, تكسب الموضوع جدّةً وطرافةً, وتزيد المسألة عمقاً ونضوجاً، وتكسب العقل قوّةً ولياقةً، وتضفي على المقام مرونةً ولطافة, بخلاف ما يُظَنُّ أَنَّهُ جافّ، وفيه قسوة أو تكلّف أو فظاظة، وتردُّ كيدَ مَنْ سوّلتْ له نفسه أن يرميَ بعضَ آي القرآن بالخطأ جهالةً منهم وغباوةً ودناوة.
والله من وراء القصد، والله أعلم، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين
[1] سورة إِبْرَاهِيم، الآية 31.
[2] الدّرّة, محمّد علي طه, تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه, مج7, ص239.
[3] الحَلَبِيّ, أحمد بن يوسف, الدّرّ المصون في علوم الكتاب المكنون, ج7, ص104.
[4] الآلوسيّ، شهاب الدِّين، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسّبع المثاني، مج8، ج13، ص319.
[5] التّبال: سوء العاقبة. ولم يذكر سِيْبَوَيْهِ صاحب البيت في "الكتاب". سِيْبَوَيْهِ, عمرو بن عثمان، الكتاب (مؤسّسة الرّسالة) , ج4, ص119.
وهو لأبي طالب عمّ النبيّ r، أو للأعشى في خزانة الأدب –وليس في ديوانِ الأعشى- وذكر البغداديّ أنّ المُبَرِّد لا يعرف قائله، وكانَ يلحّنه، ولا يحتجّ به. البغداديّ, عبد القادر بن عمر, خزانة الأدب ولبّ لباب لسان العرب, ج9, ص11 - 106.
ولَمْ يذكر ابن هِشَام اسمه، وأجاز حذف "الّلام" في الشّعر، مع بقاء عملها، وذكر محقّقو كتابه "مغني الّلبيب" أنّه لحسّان، وليس في ديوانِهِ. الأَنْصَارِيّ، جمال الدِّين بن هِشَام، مُغْنِي اللَّبِيْب عَنْ كُتُبِ الأَعَارِيْب، 297.
وذكره أَيْضَاً ابن الأَنْبَارِيّ، دون أنْ يقفَ على قائلِهِ. ابن الأَنْبَارِيّ، كمال الدِّين أبو البَرَكَات، الإنصاف في مسائل الخلاف بين النَّحْوِيِّيْنَ البَصْرِيِّيْنَ والكُوفِيِّيْنَ، ج2، 432.
¥