ومع ذلك فالفقهاء يفصلون فيقولون صفة الصلاة صفتان: صفة مجزئة، وصفة كاملة، لكن أهل التجويد يقولون هكذا قرأ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وبالتالي لا يوجد إلا صفة كمال، إما أن يكون المخرج وصفة الحرف مثل مخرجه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أو يقع التغاير.
فلما وقع الفرق والتباين واستحالة التوافق من كل وجه دل على أن في الأمر سعة، وأن تكليف الأمة أن تقرأ قراءة واحدة مجودة كقراءة النبي صلى الله عليه وسلم من تحميل الأمة ما لا تطيق، وأن ذلك لم يقع في زمنه صلى الله عليه وسلم فضلا أن يقع في زمن غيره.
6 - لا يوجد في الإسلام ركن أو واجب يحتاج من العبد كي يتعلمه ويتقنه إلى سنوات طوال، فقد كان الرجل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسلم ويجلس معه عليه الصلاة والسلام فيعلمه أركان الإسلام بجلسة، وربما دفعه إلى بعض أصحابه فيعلمونه من القرآن ما يحتاج إليه ثم ينصرف.
فالسؤال: هل يمكن لأهل التجويد الآن لو جاءهم رجل أن يعلموه التجويد العملي في خلال يوم أو يومين؟؟
استبعد ذلك قطعا، فالسند الذي يأخذه حافظ القرآن ربما جلس عند شيخه سنوات كي يتقن –إن كان سندا معتبرا - ...
7 - أن الهدف من إنزال القرآن هو التدبر والعمل به، فأهل القرآن ينبغي أن يجعلوا همهم وقد انتسبوا لأشرف علم هو هذا، دون التقليل بأهمية التجويد وتعليم الناس ذلك، وأن هذا من حفظ كتاب الله تعالى، لكن ترتيب الأولويات في ذهن أهل القرآن وواقعهم أمر مهم جدا- جزاهم الله خير الجزاء -.
وإذا كان كبار القراء في مصر سابقا – رحمهم الله – يحتاجون عند تسجيل ختمة واحدة إلى هيئة شرعية من كبار علماء عصرهم كي يقفوا عند كل حرف ومخرج، وربما استدرك عليهم بعد ذلك فكيف ستكون التلاوة في الصلاة، وعند التلاوة والمراجعة, وقد صرف الرجل همته إلى ضبط المخارج والصفات!!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
((ولا يجعل همته فيما حجب به أكثر الناس من العلوم عن حقائق القرآن إما بالوسوسة فى خروج حروفه وترقيقها وتفخيمها وإمالتها والنطق بالمد الطويل والقصير والمتوسط وغير ذلك فإن هذا حائل للقلوب قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه وكذلك شغل النطق ب أأنذرتهم وضم الميم من عليهم ووصلها بالواو وكسر الهاء أو ضمها ونحو ذلك وكذلك مراعاة النغم وتحسين الصوت)) مجموع الفتاوى (16\ 50).
8 - أن اللحن في الفاتحة الذي يبطل الصلاة أمرين هما:
أ- اللحن المتعمد من القارئ لأن هذا تلاعب بالصلاة.
ب- اللحن الذي يحيل المعنى إلى معنى باطل وصاحبه يعرف ذلك ويستمر في قراءته.
أما اللحن الذي لا يحيل المعنى، وكذا اللحن الخفي، فإنه لا يبطل الصلاة، وكذا إبدال الضاد بالظاد. أما اللحن الذي يحيل المعنى مع عدم معرفة صاحبه بذلك ففيه خلاف معتبر.
قاله بمعناه شيخ الإسلام، وكذا الإمام الشافعي من قبل.
وعليه فدعوى بطلان الفاتحة عند العامة بإطلاق دعوى مرفوضة.
ولذلك استبعد شيخ الإسلام أن يكون هناك من المسلمين من لا يتلو الفاتحة تلاوة مجزئة، وكما قلنا أن الحكم هنا للفقهاء.
9 - حكم التجويد العملي - بصورته الحالية - للقرآن:
أ- هو من فروض الكفايات، فيجب على الأمة أن يوجد فيها من يقرأ ويُقرأ الناس بتجويد.
ب- لا يمكن أن تكون أحكام التجويد العملية كلها على درجة واحدة من الوجوب، فمنها الواجب ومنها المستحب.
ج- دعوى إبطال الصلاة من أجل فاتحة الكتاب أمر مستبعد جدا كما ذكرنا ذلك سابقا.
10 - يلزم من دعوى إطلاق وجوب التجويد - كما عند المعاصرين - لوازم كثيرة:
منها: كما قلنا تأثيم العامة ومنهم العباد والصالحين والاتقياء.
ومنها: تخويف العامة من كتاب الله وإبعادهم عن هدفه الذي من أجله أنزل.
ومنها: تكليف الأمة ما لا تطيق.
ومنها: عدم إمكانية رفع الإثم عن الأمة، فأعداد الأمة كبير والمتقنين بالشروط المعتبرة عند أهل التجويد كالكبريت الأحمر.
ومنها: يلزم أهل التجويد أن يقرؤوا مجودين حتى في خاصة أنفسهم، وكذا عند مراجتعهم للحفظ، وهذا يستحيل، كيف وقد وقع عند سلف الأمة وعلمائها ختم القرآن أكثر من ختمة في اليوم الواحد؟؟ ولا يمكن أن يقال أن ذلك كان مع المحافظة على أحكام التجويد فهذا يحتاج إلى وقت طويل كي يختم ختمة واحدة، ولا يمكن أن يقال أن ذلك كان بمرتبة الحدر في التلاوة فهي مرتبة صعبة لا يحسنها حتى بعض أهل الإتقان ...
ومنها: يلزم أهل القرآن - في كل وقت وخاصة في مواسم العبادات كرمضان - أن يحذروا الناس من تلاوة كتاب الله من غير تجويد، وأن هذه التلاوة تلحق بهم الإثم من حيث أرادوا الأجر.
وغير ذلك من اللوازم الشاقة ...
الخلاصة:
أننا نحتاج إلى تفصيل أكثر في مسألة حكم التجويد، وأن تأثيم العامة بإطلاق من المسائل الخطرة جدا، وفيه إبعاد الناس عن كتاب ربهم تبارك وتعالى الذي أنزل للعمل به ...
لكن لو تم وضع الضوابط والقواعد العامة لربما كان ذلك صحيحا ...
مثلا أن يقال: من تصدى لتعليم الناس لا بد أن يكون مجودا عالما بطريقة الأداء لكان ذلك حسنا ...
هذا ملخص ما أردت ...
والله تعالى أعلى وأعلم ... فمن كان من صواب فمن الله وحده، ومن كان من خطأ أو نسيان أو تجاوز فمني ومن الشيطان ...
وأرجو من أخينا أن يتسع صدره للخلاف ... وجزيت خيرا ...
¥