مَاتَ الْقَاضِي أبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ فِي يَوْمِ السَّبْتِ لِعَشْرٍ بَقَيْنَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ سَنَةَ خَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ فِي مَقْبَرَةِ بَابِ حَرْبٍ، وَحَضَرْتُ الصَّلاةَ عَلَيْهِ فِي جَامِعِ الْمَنْصُورِ وَكَانَ إِمَامَنَا فِي الصَّلاةِ عَلَيْهِ أبُو الْحَسَنِ ابْنُ الْمُهْتَدِي بِاللهِ الْخَطِيبُ. وبَلَغَ مِنَ السِّنِّ مِائَةَ سَنَةٍ وَسَنَتَيْنِ، وَكَانَ صَحِيحَ الْعَقْلِ، ثَابِتَ الْفَهْمِ، يَقْضِى وَيُفْتِى إِلَى حِينِ وَفَاتِهِ».
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ خَلِّكَانَ «وَفَيَاتُ الأَعْيَانِ» (2/ 512): وَمِنْ شِعْرِهِ مَا أَوْرَدَهُ لَهُ الْحَافِظُ أبُو طَاهِرٍ السِّلَفِيُّ فِي الْجُزْءِ الَّذِي وَضَعَهُ فِي أَخْبَارِ أَبِي الْعَلاءِ الْمَعَرِّي، فَقَالَ مُسْنِدَاً عَنْهُ أنَّهُ:
كَتَبَ إِلَى أَبِي الْعَلاءِ الْمَعَرِّي حِينَ وافَى بِبَغْدَادَ، وَنَزَلَ فِي سَوِيقَةِ غَالِبٍ:
وَمَا ذَاتُ دَرٍّ لا يَحِلُّ لِحَالِبٍ ... تَنَاوُلُهُ وَاللَّحْمُ مِنْهَا مُحَلَّلُ
لِمَنْ شَاءَ فِي الْحَالَيْنِ حَيَّاً وَمَيْتَاً ... وَمَنْ رَامَ شُرْبَ الدَّرِّ فَهُوْ مُضَلَّلُ
إِذَا طَعَنَتْ فِي السِّنِّ فَالطَّعْمُ طَيِّبٌ ... وَآكِلُهُ عِنْدَ الْجَمِيعِ مُغَفَّلُ
وَخِرْفَانُهَا لِلأَكْلِ فِيهَا كَزَازَةٌ ... فَمَا لِحَصِيفِ الرَّأْيِ فِيهِنَّ مَأْكَلُ
وَمَا يَجْتَنِي مَعْنَاهُ إِلاَّ مُبَرَّزٌ ... عَلِيمٌ بِأَسْرَارِ الْقُلُوبِ مُحَصِّلُ
فَأَجَابَ وَأَمْلَى عَلَى الرَّسُولِ فِي الْحَالِ ارْتِجَالاً:
جَوَابَانِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ كِلاهُمَا ... صَوَابٌ وَبَعْضُ الْقَائِلِينَ مُضَلِّلُ
فَمَنْ ظَنَّهُ كَرْمَاً فَلَيْسَ بِكَاذِبٍ ... وَمَنْ ظَنَّهُ نَخْلاً فَلَيْسَ يُجَهَّلُ
لُحُومُهُمَا الأَعْنَابُ وَالرُّطَبُ الَّذِي ... هُوَ الْحِلُّ وَالدَّرُّ الرَّحِيقُ الْمُسَلْسَلُ
وَلَكِنْ ثِمَارُ النَّخْلِ وَهِيَ غَضِيضَةٌ ... تُمَرُّ وَغَضُّ الْكَرْمِ يُجْنَى وَيُؤْكَلُ
يُكَلِّفُنِي الْقَاضِي الْجَلِيلُ مَسَائِلاً ... هِيَ النَّجْمُ قَدْرَاً بَلْ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ
وَلَوْ لَمْ أُجِبْ عَنْهَا لَكُنْتُ بَجَهْلِهَا ... جَدِيرَاً وَلَكِنْ مَنْ يَوُدُّكَ مُقْبِلُ
فَرَدَّ أَبُو الطَّيِّبِ مُثْنِيَاً عَلَيْهِ بِأَبْيَاتٍ مِنْهَا:
تَسَاوَى لَهُ سِرُّ الْمَعَانِي وَجَهْرُهَا ... وَمُعْضَلُهَا بَادٍ لَدَيْهِ مُفَصَّلُ
وَأَعْجَب مِنْهُ نَظْمُهُ الدُّرَّ مُسْرِعَاً ... وَمُرْتَجِلاً مِنْ غَيْرِ مَا يَتَمَهَّلُ
فَيَخْرُجُ مِنْ بَحْرٍ وَيَسْمُو مَكَانُهُ ... جَلالاً إِلَى حَيْثُ الْكَوَاكِبُ تَنْزِلُ
فَأَجَابَهُ أَبُو الْعَلاءِ مُرْتَجِلاً مَادِحَاً إيَّاهُ:
أَلا أَيُّهَا الْقَاضِي الَّذِي بِدَهَائِهِ ... سُيُوفٌ عَلَى أَهْلِ الْخِلافِ تُسَلَّلُ
فُؤَادُكَ مَمْهُورٌ مِنَ الْعِلْمِ آهِلُ ... وَجِدُّكَ فِي كُلِّ الْمَسَائِلِ مُقْبِلُ
فَإِنْ كُنْتَ بَيْنَ النَّاسِ غَيْرَ مُمَوَّلٍ ... فَأَنْتَ مِنَ الْفَهْمِ الْمَصُونِ مُمَوَّلُ
إذَا أَنْتَ خَاطَبْتَ الْخُصُومَ مُجَادِلاً ... فَأَنْتَ وَهُمْ مِثْلُ الْحَمَائِمِ أَجْدَلُ
كَأَنَّكَ مِنْ فِيِّ الشَّافِعِيِّ مُخَاطَبٌ ... وَمِنْ قَلْبِهِ تُمْلِي فَمَا تَتَمَهَّلُ
وَكَيْفَ يُرَى عِلْمُ ابْنِ إِدْرِيسَ دَارِسَاً ... وَأَنْتَ بِإِيْضَاحِ الْهُدَى مُتَكَفِّلُ
تَفَضَّلْتَ حَتَّى ضَاقَ ذَرْعِي بِشُكْرِ مَا ... فَعَلْتَ وَكَفِّي عَنْ جَوَابِكَ أَجْمَلُ
لأَنَّكَ فِي كُنْهِ الثُّرَيَا فَصَاحَةً ... وَأَعْلَى وَمَنْ يَبْغِي مَكَانَكَ أَسْفَلُ
فَعُذْرُكَ فِيَّ أَنِّي أَجَبْتُكَ وَاثِقَاً ... بِفَضْلِكَ فَالإِنْسَانُ يَسْهُو وَيَذْهَلُ
وَأَخْطَأْتَ فِي إِنْفَاذِ رُقْعَتِكَ الَّتِي ... هِيَ الْمَجْدُ لِي مِنْهَا أَخِيرٌ وَأَوَّلُ
وَلَكِنْ عَدَانِي أَنْ أَرُومَ احْتِفَاظَهَا ... رَسُولُكَ وَهُوَ الْفَاضِلُ الْمُتَفَضِّلُ
وَمِنْ مَصَادِرِ تَرْجَمَتِهِ: طَبَقَاتُ الْعَبَّادِيِّ (114)، وَتَارِيْخُ بَغْدَادَ (9/ 358)، وَطَبَقَاتُ الشِّيْرَازِيِّ (127)، وَالأَنْسَابُ لِلسَّمْعَانِيِّ (4/ 47)، وَالْمُنْتَظَمُ لابْنِ الْجَوْزِيِّ (8/ 198)، وَاللُّبَابُ (2/ 274)، وَالْكَامِلُ فِي التَّارِيْخِ لابْنِ الأَثِيْرِ (9/ 651)، وَطَبَقَاتُ ابْنِ الصَّلاحِ (الْوَرَقَةُ 50،51)، وَتَهْذِيبُ الأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ لِلنَّوَوِيِّ (2/ 247، 248)، وَوَفَيَاتُ الأَعْيَانِ لابْنِ خَلِّكَانَ (2/ 512 _ 515)، وَالْمُخْتَصَرُ فِي أَخْبَارِ الْبَشَرِ (2/ 179)، وَتَارِيْخُ الإِسْلامِ لِلذَّهَبِيِّ (30/ 242)، وَسِيَرُ أَعْلامِ النُّبَلاءِ (17/ 669)، وَالْعِبَرُ فِي خَبَرِ مَنْ عَبَرَ (3/ 222)، وَالْوَافِي بِالْوَفَيَاتِ لِلصَّفَدِيِّ، وَمِرْآةُ الْجَنَانِ (3/ 70– 72)، وَطَبَقَاتُ الشَّافِعِيَّةِ لِلتَّاجِ السُّبْكِيِّ (5/ 12_50)، وَطَبَقَاتُ الشَّافِعِيَّةِ للأَسْنَوِيِّ (2/ 157_ 158)، وَالْبِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ لابْنِ كَثِيْرٍ (12/ 79)، وَالنُّجُومُ الزَّاهِرَةُ فِي مُلُوكِ مِصْرَ وَالْقَاهِرَةِ (5/ 63)، وَشَذَرَاتُ الذَّهَبِ لابْنِ الْعِمَادِ (3/ 284).
¥