فوجدوا ما يبين وهنه فيذكرونه، وكثيراً ما يستغنون بذلك عن التصريح بحال المتن.
انظر موضوعات ابن الجوزي، وتدبر تجده إنما يعمد إلى المتون التي يرى فيها ما ينكره، ولكنه قلما يصرح بذلك، بل يكتفي غالباً بالطعن في السند، وكذلك كتب العلل وما يعل من الأحاديث في التراجم، تجد غالب ذلك مما ينكر متنه، ولكن الأئمة يستغنون عن بيان ذلك بقولهم: "منكر الحديث" أو نحوه، أو الكلام في الراوي، أو التنبيه على خلل في السند كقولهم: "فلان لم يلق فلاناً، لم يسمع منه، لم يذكر سماعاً، اضطرب فيه، لم يتابع عليه، خالفه غيره، يروى هذا موقوفاً وهو أصح"، ونحو ذلك.
وخير شاهد على صدق قولنا: إن علماء الجرح والتعديل قد اعتنوا عناية بالغة بنقد متون رواة الحديث قبل الحكم عليهم، أن الباحث المدقق حين ينعم النظر في كلام الحافظين: ابن حبان في كتابه "المجروحين"، وابن عدي في كتابه "الكامل" -وهما من أهم كتب الجرح المطولة المتميزة بذكر مسببات الحكم على الراوي،- سيقف على عشرات النصوص المتعلقة بنقدهما لكثير من الرواة بسبب ما ورد في مروياتهم من متون حديثية غير مستقيمة، ومن ذلك مثلاً قول ابن حبان في تراجم بعض الرواة الذين جرحهم: "هذا متن باطل،" "هذا متن لا أصل له،" "هذا متن مقلوب،" "هذه متون واهية" ... الخ.
وأما الحافظ ابن عدي فقد أكثر من بيان أهمية مراعاة متون الرواة أثناء الحكم عليهم، في كتابه "الكامل في الضعفاء،" من ذلك مثلاً قوله: "وأشعث بن عبد الرحمن بن زبيد، له أحاديث، ولم أر في متون أحاديثه شيئاً منكراً، ولم أجد في أحاديثه كلاماً إلا عن النسائي، وعندي أن النسائي أفرط في أمره حيث قال: "ليس بثقة؛" فقد تبحرت حديثه مقدار ما له، فلم أر له حديثاً منكراً."
وفي موضع آخر نجده يقول: "ولم أجد لأشعث فيما يرويه متناً منكراً، إنما في الأحايين يخلط في الإسناد ويخالف،" وفي موضع آخر يقول: "ولم أجد لأسامة بن زيد حديثاً منكراً جداً لا إسناداً ولا متناً، وأرجو أنه صالح،" ويقول أيضاً: "ولخالد هذا غير ما ذكرت من الحديث إفرادات وغرائب، عمن يحدث عنه وليس بالكثير، وأرجو أنه لا بأس به؛ لأني لم أر في حديثه متناً منكراً،" ويقول أيضاً: "ولحفص بن عمر هذا غير ما ذكرت من الحديث وأحاديثه كلها إما منكر المتن، أو منكر الإسناد، وهو إلى الضعف أقرب."
ومثل هذا كثير جداً في كتابه يذكره أحياناً في نفي ضعف الراوي، وأحياناً ليثبت ضعفه.
ثانياً: الأسباب الموجبة لنقد المتن عند علماء الجرح والتعديل وأثرها في الحكم على رواة الحديث.
ظهر لي بعد التأمل في عشرات النصوص المختصة بنقد المتن في كتب الرجال، وكذا في كتب العلل، أن الأسباب الموجبة لنقد رواة الحديث النبوي المتعلقة بالمتون عند أئمة الجرح والتعديل لا تخرج في الجملة عن ثلاثة، هي: المخالفة، والتفرد، والاضطراب.
وهذا هو ترتيبها من حيث الأهمية، وكثرة الاستعمال -وفق ما ظهر لي- ولم أذكر الكذب في المتون؛ لأنه يدخل في باب قوادح العدالة، وأمره واضح جلي من حيث أن الموصوف بذلك يكون حديثه موضوعاً ساقطاً لا يحل ذكره إلا على سبيل البيان وتحذير الأمة منه، وإنما يكون الخفاء فيما عداه، ومع ذلك لم أهمل الإشارة إلى شيء من ذلك في الحالة الأولى من حالات التفرد، كما سيأتي، وسنعرض فيما يلي لتوضيح هذه الأسباب مع ذكر بعض الأمثلة.
السبب الأول: المخالفة
نقصد بالمخالفة هنا أن متن الحديث الذي يرويه الراوي الذي يكون محل الدراسة عند علماء الجرح والتعديل يتعارض مع أحد الأصول التالية: صريح القرآن، أو صحيح السنة النبوية، أو الإجماع، أو قول راوي الحديث أو فعله.
ومما يؤكد أن علماء الجرح والتعديل التفتوا لهذا السبب بصورة أساسية، وجعلوه ركناً من أركان العملية النقدية في فحص الرواة والحكم عليهم، قول الحافظ ابن حجر: "مدار التعليل في الحقيقة على بيان الاختلاف،" وعلم العلل هو الجانب التطبيقي للعملية النقدية عند علماء الحديث، فالحكم على حديث أحد الرواة بأن فيه مخالفة هو من صميم علم العلل، ونتيجته: الحكم على الراوي إن تكرر منه مثل هذه المخالفات أن يحكم عليه بعبارة: "ضعيف، أو صالح، أو صدوق ليس بمتقن، أو متروك، أو ثقة له أوهام،" ونحو هذه العبارات التي هي في حقيقة الأمر نتائج العملية النقدية التي يقوم بها علماء الجرح
¥