تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

والتعديل قبل إصدار حكمهم على رواة الحديث النبوي، وبناء عليه فإن طرق ووسائل العمليات النقدية التي هي قواعد علم علل الحديث، تكون مرحلة سابقة على إصدار الحكم، وبهذا يتبين أن نقد المتن الحديثي بسبب المخالفة ركن من أهم أركان العملية النقدية لدى علماء الجرح والتعديل.

ومما يدل استعمال أئمة الجرح والتعديل لنقد المتن الحديثي بسبب مخالفته لظاهر القرآن من خلال كلامهم العام، ما ذكره ابن حبان -أحد علماء الجرح والتعديل المشهور- في سياق كلامه، وهو يقرر قاعدة عامة في معرفة الرواة بطريق الاعتبار، فقال: "ومتى عُدم ذلك -يعني وجود متابعة أو شاهد- والخبر نفسه يُخالف الأصول الثلاثة، علم أن الخبر موضوع، ولا شك فيه، وأن ناقله الذي تفرد به هو الذي وضعه."

ومقصوده بالأصول الثلاثة: الكتاب، والسنة، وإجماع الصحابة وقد صرح في موضع آخر من صحيحه أن الإجماع عندنا هو إجماع الصحابة، ويشهد لما ذكرته هنا بصورة قاطعة نص آخر لابن حبان ذكره في ترجمة أبي زيد الذي يروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حديث الوضوء بالنبيذ لمن لم يجد الماء، فقد قال في ترجمته:

"أبو زيد، يروي عن ابن مسعود ما لم يتابع عليه، ليس يُدرى من هو، ولا يعرف أبوه، ولا بلده، والإنسان إذا كان بهذا النعت، ثم لم يرو إلا خبراً واحداً خالف فيه الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، والنظر، والرأي؛ يستحق مجانبته فيها، ولا يحتج به روى عن ابن مسعود أن النبي ? توضأ بالنبيذ."

وقد قال الحافظ ابن عدي في نقده لهذا الحديث: "هو خلاف القرآن،" يعني في قوله تعالى: ?فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا? (المائدة: 6)، فدل ظاهر القرآن أنه حيث لا يوجد ماء طهور، فينتقل إلى التيمم، وظاهر الحديث السابق يعارض هذا حيث يدل على أن الماء الذي نُبذ فيه التمر، وتغير بذلك حتى سمي نبيذاً يغني عن الماء الأصلي الذي لم تتغير صفاته، ولذا قال ابن حبان وابن عدي، وهما من كبار أئمة الجرح والتعديل إن الحديث مخالف للقرآن وطعنا في راويه أبي زيد وهو المتفرد به عن ابن مسعود. وهذا مثال تطبيقي للقاعدة التي قررها ابن حبان آنفاً.

وفي حدود اطلاعي لم أقف على نص عن أحد من أئمة الجرح والتعديل يصرح فيه أن مخالفة متن الحديث لصريح القرآن لا تعد سبباً للطعن فيه، ولكن يبدو من خلال ما وقفت عليه أن نصوصهم الصريحة في نقد المتن الحديثي بسبب مخالفته للقرآن قليلة جداً، وذلك فيما أرى راجع إلى أنهم يستعملون أسباب أخرى لبيان نكارة المتن ومخالفته، دون الاتكاء أو الاعتماد على السبب المذكور آنفاً لوحده، وتعليل موقفهم هذا سيأتي توضيحه في المبحث الثالث إن شاء الله.

وأما مخالفة المتن الحديثي لمتن حديثي آخر، فهذا يوجد في كلام أئمة الجرح والتعديل بكثرة، ومن الأمثلة على ذلك، حديث تفرد به أبو قيس عبد الرحمن بن ثَرْوان عن هُزيل بن شُرَحبيل عن المغيرة بن شعبة قال: "توضأ النبي ?، ومسح على الجوربين."

فقد انتقد جمع من كبار أئمة الجرح والتعديل هذا المتن، منهم الإمام مسلم بن الحجاج الذي قال فيه: "أبو قيس الأودي، وهزيل بن شرحبيل لا يحتملان هذا، مع مخالفتهما الأجلة، الذين رووا هذا الخبر عن المغيرة فقالوا: مسح على الخفين، وقال: لا نترك ظاهر القرآن، بمثل أبي قيس، وهزيل."

والمقصود أن الإمام مسلماً يرى أن لفظة "الجوربين" ليست صحيحة، وعلل طعنه فيها بأن أبا قيس وهو المتفرد بها قد خالفه جمع من كبار الحفاظ فرووا الحديث عن المغيرة وفيه لفظة "الخفين" لا الجوربين، ثم ألمح إلى أن ظاهر القرآن يدل على وجوب غسل القدم في الوضوء كما تدل عليه الآية السادسة في سورة المائدة المعروفة بآية الوضوء، وما دام الحديث مشكوك في ثبوته بسبب المخالفة، فعليه لا يقال بجواز المسح على الجوربين عوضاً عن غسل القدمين في الوضوء، وهذا الكلام يدل على أن الحديث محتمل الثبوت، والقول بضعفه ليس بقطعي.

ومما يدل على أنه قد اختلفت وجهات النظر فيه، أن بعض النقاد ذهبوا إلى تصحيحه، ورأوا أنه غير مخالف لما رواه الآخرون عن المغيرة، وممن قال بصحته الترمذي وابن خزيمة وابن حبان.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير