حدثنا محمد بن المثنى ثنا محمد -هو غندر- ثنا شعبة عن يزيد بن زاذان قال: سمعت أبا زرعة قال: سألت أبا هريرة عن المسح على الخفين؟ قال: فدخل أبو هريرة دار مروان بن الحكم، فبال، ثم دعا بماء فتوضأ، وخلع خفيه، وقال: "ما أمرنا الله أن نمسح على جلود البقر والغنم."
فقد صح برواية أبي زرعة، وأبي رزين عن أبي هريرة إنكاره المسح على الخفين، ولو كان قد حفظ المسح عن النبي ? كان أجدر الناس وأولاهم للزومه، والتدين به، فلما أنكره الذي في الخبر من قوله: "ما أمرنا الله أن نمسح على جلود البقر والغنم،" والقول الآخر: "ما أبالي على ظهر حمار مسحت أو على خفي؛" بان بذلك أنه غير حافظ المسح عن رسول الله ?، وأن من أسند ذلك عنه عن النبي ? واهي الرواية، أخطأ فيه إما سهواً أو تعمداً، فبجمع هذه الروايات، ومقابلة بعضها ببعض تتميز صحيحها من سقيمها، وتتبين رواة ضعاف الأخبار من أضدادهم من الحفاظ، ولذلك أضعف أهل المعرفة بالحديث عمر بن عبد الله بن أبي خثعم، وأشباهم من نقلة الأخبار؛ لروايتهم الأحاديث المستنكرة التي تخالف روايات الثقات المعروفين من الحفاظ."
والتعليل بمثل هذا النوع من المخالفة عند كثير من المختصين في الحديث اليوم، محل نظر؛ لأنه في نظرهم مخالف للقاعدة التي تقول: العبرة بما روى الراوي لا بما رأى، وفي ظني أن التعامل مع النص وفق وجهة النظر هذه سيكون كالآتي: بما أن المتن محفوظ عن رسول الله ? من وجوه عدة، فالحديث حسن أو صحيح لغيره، ولكن هذا خطأ، وكما رأينا هنا فإن لأئمة الجرح والتعديل منهجية مختلفة، فالإمام مسلم يرى أن أهل المعرفة بالحديث إنما ضعفوا عمر بن أبي خثعم؛ لروايته مثل هذا الحديث المنكر المتن، وسبب النكارة هنا، أن المعروف من مذهب أبي هريرة رضي الله عنه أنه لا يرى المسح على الخفين، فكيف يروي مثل هذا الرواي ما يخالف ذلك، ولقد كان من الممكن أن يفتح باب التأويل، فيقال: لعل أبا هريرة أنكر المسح سابقاً، ثم تذكر، أو سمع من بعض الصحابة ما يثبته عن رسول الله ?، فروى الحديث السابق، لكن فيما يبدو أن مثل هذه التأويلات لم تكن مقبولة عند الإمام مسلم، وآخرين من أئمة الجرح والتعديل.
والأمثلة على هذا النوع من أنواع مخالفة المتن المؤثرة في الحكم على الرواة ليست بالقليلة، بل ذكر الحافظ ابن رجب أنها كثيرة في قوله: "قاعدة في تضعيف حديث الراوي إذا روى ما يخالف رأيه، قد ضعف الإمام أحمد، وأكثر الحفاظ أحاديث كثيرة بمثل هذا."
السبب الثاني: التفرد
الناظر بتأمل وتعمق في كلام أئمة الجرح والتعديل لا يخالجه شك أن مسألة التفرد بصورة عامة قد احتلت مساحة كبيرة جداً في العملية النقدية عندهم رحمهم الله.
والتفرد بمتن حديثي لا يحتمل للراوي كان سبباً من أهم أسباب نقد أئمة الجرح والتعديل للرواة، وقد ظهر لي بدراسة جملة من النصوص المتعلقة بتفرد المتون، أنه يكون موجباً لنقد الراوي عندهم في ثلاث حالات:
1 - إذا كان التفرد بمتن لا أصل له، ويكون مشتملاً على أمور مبالغ فيها، أو لا تشبه كلام النبوة، وهذا ما يمكن تسميته بالتفرد المطلق أي أن الراوي ينفرد بمتن أو متون حديثية لا أصل لها، لا تعرف إلا من طريقه، وهذا متفق عند الأئمة على رده.
2 - إذا كان الراوي يكثر من التفرد بمتون عن عالم من علماء الحديث المعروفين كابن جريج أو عطاء، وأمثالهما، يستبعد أن يكون حدث بها؛ لأنها لا توجد عند الحفاظ من أصحاب ذلك الإمام، والغالب أن ذلك الراوي الذي تفرد بها جعل ذلك السند -لسهولته بالنسبة لحافظته- جادة يكثر من سلوكها في كثير من مروياته، وهذا ممكن تسميته بالتفرد المقيد، وجمهور علماء الجرح والتعديل على تضعيف الراوي الذي يقع منه مثل ذلك.
3 - إذا كان الراوي يتفرد بمتن يحتوي على تفصيل في أمر من الأمور المهمة في الشريعة، وهذا ممكن تسميته بالتفرد النسبي، وهو مختلف فيه بين علماء الحديث إذا كان راويه صدوقاً أو ثقة غير مكثر.
ومن الأمثلة على الحالة الأولى من حالات التفرد: أنه قد قيل لشعبة: "من أين تعلم أن الشيخ يكذب؟ قال: إذا روى عن النبي ?: "لا تأكلوا القَرْعة حتى تذبحوها،" علمت أنه يكذب."
وسأل عبد الرزاق وكيعاً عن يحيى بن العلاء: ما تنكرون منه؟ فقال وكيع: "روى عشرين حديثاً في خلع النعل على الطعام."
¥