أنّ مسلمًا لم ينفرد بنقل الإجماع على قبول عنعنة المتعاصرين مع السلامة من التدليس، بل يوافقه على نقل الإجماع جَمْعٌ من أهل العلم، كلُّهم قبل القاضي عياض!! ... إلخ.
فأولهم: أبو الوليد الطيالسي (ت 227هـ):
قال ابن رجب: " قال الحاكم: قرأت بخط محمد بن يحيى: سألت أبا الوليد (هشام بن عبد الملك الطيالسي): أكان شعبة يفرّق بين (أخبرني) و (عن)؟ فقال: أدركت العلماء وهم لا يفرّقون بينهما.
أقول: إذا كانت المسألة متفق عليها عند المحدثين فلماذا سأل الذهلي عنها عن شيخه شعبة؟ ثبت بنقلك هذا أن المسألة كانت خلافية إلى عهد مسلم، فلعل مسلمًا أشار إلى الذهلي بقوله: " وقد تكلم بعض منتحلي الحديث ... إلخ " وأنت تعلم ماجري بينه وبين مسلم؛
ثم إن قول شعبة مختلف في هذه المسألة كما ذكره ابن عبد البر:
" اعلمْ ـ وفَّقَك اللهُ ـ أني تأمَّلْتُ أقاويلَ أئمَّةِ أهلِ الحديثِ، ونظرْتُ في كُتبِ مَن اشْترَط الصحيحَ في النَّقْلِ منهم ومَن لم يَشْترِطْه، فوجدْتُهم أجمَعوا على قَبُولِ الإسنادِ المُعَنْعَنِ، لا خلافَ بينَهم في ذلك إذا جمَع شُروطًا ثلاثةً ـ وهي:
ـ عدالةُ المُحَدِّثين في أحوالِهم
ـ ولقاءُ بعضِهم بعضًا مجالسةً ومشاهدَةً
ـ وأن يكونوا بُرَآءَ من التَّدْليسِ
والإسنادُ المُعَنْعَنُ: فُلانٌ، عن فُلانِ، عن فُلانٍ.
وقد حدَّثنا إسماعيلُ بنُ عبدِ الرحمنِ، حدثنا إبراهيمُ ابنُ بكرٍ، حدثنا محمدُ بنُ الحسينِ بنِ أحمدَ الأَزْدِيُّ الحافِظُ المَوْصِليُّ، قال: حدثنا ابنُ زاطِيَا، قال: حدثنا أبو مَعْمَرٍ، عن وَكيعٍ، قال: قال شعبةُ: فُلانٌ عن فُلانٍ. ليس بحديثٍ. قال وَكيعٌ: وقال سفيانُ: هو حديثٌ.
قال أبو عمر: ثم إنَّ شُعْبَةَ انصرَف عن هذا إلى قولِ سفيانَ [15] ".
أقول: قول أبي عمر: " ثم إن شعبة انصرف عن هذا إلى قول سفيان ".
أقول: نفس القصة تدل على وجود الاختلاف إلى عهد شعبة.
ثم قول شعبة: " أدركت العلماء " ... إلخ، هل هذا القول شامل من عهد التابعين إلى عهد شعبة حتى يدل على الإجماع؟
إنما حكى شعبة مشاهدته فقط، وهذا لا يشمل حتى جميع المحدثين الموجودين في عهد شعبة في البلاد الإسلامية؛ عجبًا على تحقيقك!
قال الشيخ حاتم [16]:
" وثاني من نقل الإجماع: أبو عبد الله الحاكم النيسابوري (ت405هـ):
قال الحاكم في (معرفة علوم الحديث): " معرفة الأحاديث المعنعنة وليس فيها تدليس: وهي متّصلةٌ بإجماع أئمة أهل النقل، على تورُّع رواتها عن أنواع التدليس ".
أقول: نقلته من معرفة علوم الحديث بدون فهم تام، فإذا تدبرت الأدلة التي ذكرها الحاكم عرفت أنه لم يثبت بها النقل التام المسلسل من عهد التابعين إلى عهده؛ ثبوتها في ذمتك لأنك مدعي الإجماع.
والحاكم معروف بالتساهل والوهم؛ يذكر الحاكم في المستدرك الأحاديث الموضوعة ثم يقول: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه، ومن جملتها في المستدرك [17]: " إذا كان يوم القيامة ... " الحديث، وقال عقبه: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وانظر التعقيب عليه تحته في التلخيص.
أقول: الإجماع الذي نقلته من الإمام مسلم (ت 261هـ) ثم ما وجدتَ أحدا قال هذا القول إلا الحاكم (ت 405هـ)، وبين وفاتيهما تقريبًا 144 سنة، فهل في هذه الفترة لم يكن أحد من المحدثين الكبار اطلع على هذا الإجماع؟ وسكوتهم لا يدل على قبولهم، بل يدل على عدم الاعتبار ـ والله أعلم.
وسيأتي عدم الاعتبار عليه من الطحاوي في الصفحة التالية.
قال الشيخ حاتم [18]:
" وثالثُ من نقل الإجماع: الحافظ المقرئ أبو عَمرو الدّاني (ت444هـ):
فقد نقل ابنُ رُشيد عن جزء لأبي عَمرو الداني باسم: (بيان المتّصل والمرسل والموقوف والمنقطع) أنه قال: " وما كان من الأحاديث المعنعنة التي يقول فيها ناقلوها: عن، عن = فهي متّصلةٌ، بإجماع أهل النقل، إذا عُرف أن الناقلَ أدرك المنقولَ عنه إدراكًا بَيِّنًا، ولم يكن ممن عُرف بالتدليس، وإن لم يذكر سماعًا ".
أقول: وهذا ثاني من ادعى الإجماع بعد الإمام مسلم، بشروط ذكرها، وهل على قوله هذا دليل؟ نقلت من ابن رشيد بدون معرفة دليله، وأيضا لم يقل: إن مسلمًا نقل الإجماع.
قال الشيخ حاتم [19]:
¥