قال [أي المازري]: وقد تمسك بقول أنس هذا جماعة من الملاحدة ولا متمسك لهم فيه فإنا لا نسلم حمله على ظاهره؛ سلمناه ولكن من أين لهم أن الواقع في نفس الأمر كذلك؛ سلمناه لكن لا يلزم من كون كل واحد من الجم الغفير لم يحفظه كله أن لا يكون حفظ مجموعه الجم الغفير؛ وليس من شرط التواتر أن يحفظ كل فرد جميعه، بل إذا حفظ الكل الكل ولو على التوزيع كفى.
واستدل القرطبي على ذلك ببعض ما تقدم من أنه قُتل يوم اليمامة سبعون من القراء، وقتل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ببئر معونة مثلُ هذا العدد؛ قال: وإنما خص أنس الأربعة بالذكر لشدة تعلقه بهم دون غيرهم، أو لكونهم كانوا في ذهنه دون غيرهم.
وأما الوجه الثاني من المخالفة:
فقال الإسماعيلي: هذان الحديثان مختلفان ولا يجوزان في الصحيح مع تباينهما؛ بل الصحيح أحدهما.
وجزم البيهقي بأن ذكر أبي الدرداء وهم والصواب أبي بن كعب.
وقال الداودي: لا أرى ذكر أبي الدرداء محفوظاً.
قلت: وقد أشار البخاري إلى عدم الترجيح، باستواء الطرفين، [قلت: هذه دعوى تفتقر إلى الدليل فمن الذي أخبرنا بأن البخاري أشار إلى ذلك ومن أين يظهر لنا استواء الطرفين ليشير البخاري بهذا الاستواء إلى عدم ترجيحه بين الروايتين؛ وأما ادعاء العكس فهو الصحيح ودلائله لائحة لمن أنصف وعرف طريقة البخاري؛ وسيقع ابن حجر رحمه الله تعالى في تناقض فانتظره يأتك قريباً، وهو ظنه أو تصريحه باحتمال أن يكون البخاري أشار إلى ترجيح رواية قتادة، قال ذلك بعد تصريحه بترجيحه رواية قتادة].
فطريق قتادة على شرطه وقد وافقه عليها ثمامة في إحدى الروايتين عنه.
وطريق ثابت أيضاً على شرطه وقد وافقه عليها أيضاً ثمامة في الرواية الأخرى.
لكن مخرج الرواية عن ثابت وثمامة بموافقته قد [الأصل وقد] وقع عن عبد الله بن المثنى وفيه مقال، وإن كان عند البخاري مقبولاً لكن لا تعادل روايته رواية قتادة.
ويرجح رواية قتادة حديث عمر في ذكر أبي بن كعب وهو خاتمة أحاديث الباب ولعل البخاري أشار بإخراجه إلى ذلك، لتصريح عمر بترجيحه في القراءة على غيره.
ويحتمل أن يكون أنس حدث بهذا الحديث في وقتين فذكره مرة أبي بن كعب ومرة بدله أبا الدرداء. [قلت: ولكن إحدى الروايتين بصيغة الاستثناء وهو من أعلى صيغ الحصر، ومعنى ذلك إن الروايتين متنافيتان].
وقد روى ابن أبي داود من طريق محمد بن كعب القرظي قال: جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة من الأنصار: معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبي بن كعب وأبو الدرداء وأبو أيوب الأنصاري، وإسناده حسن مع إرساله، وهو شاهد جيد لحديث عبد الله بن المثنى في ذكر أبي الدارداء، وإن خالفه في العدد والمعدود.
[قلت: بل هو ضعيف، ولا يصلح للشهادة لحديث شاذ منكر، والمنكر أبداً منكر لا يصلح للتقوي ودفع النكارة!!
ثم لو قدرنا أنه يصلح للشهادة فإنه حينئذ يشهد لبعض حديث عبد الله بن المثنى وهو ذكر أبي الدرداء، ولكنه يشهد على ضعف وشذوذ ذلك الحديث فإن فيه حصراً خرج عنه عبادة بن الصامت وأبو أيوب، وهذا الحديث يثبت لهما الحفظ، فالحصر على هذا الافتراض منكر، أو في الأقل فيه نظر؛ فلماذا نقوي ذلك الحديث أو بعضه ببعض هذا حين وافقه، ولا نعل بعض ذلك ببعض هذا أيضاً حين خالفه؟].
ومن طريق الشعبي قال: جمع القرآن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة منهم أبو الدرداء ومعاذ وأبو زيد وزيد بن ثابت؛ وهؤلاء الأبعة هم الذين ذكروا في رواية عبد الله بن المثنى، وإسناده صحيح مع إرساله.
[أقول: المرسل في تصحيحه نظر؛ ولئن صح وكان أصح من رواية عبد الله بن المثنى فإن روايته أي عبد الله تكون شاذة معللة بمخالفة رواية الشعبي هذه، فإنها أثبتت الحفظ لاثنين من الصحابة وتلك نفته عنهما].
فلله در البخاري ما أكثر اطلاعه وقد تبين بهذه الرواية المرسلة قوة رواية عبد الله بن المثنى وأن لروايته أصلاً والله أعلم.
[قلت: أصلها خال من نفي الحفظ عن غير هؤلاء الأربعة بل عن أي أربعة آخرين من الصحابة، ولا بد].
وقال الكرماني: لعل السامع كان يعتقد أن هؤلاء الأربعة لم يجمعوا وكان أبو الدرداء ممن جمع فقال أنس ذلك رداً عليه وأتى بصيغة الحصر ادعاء ومبالغة، ولا يلزم منه النفي عن غيرهم بطريق الحقيقة).
قلت: هذا تكلف في الجمع بين النصوص المتعارضة مع أن أحدهما أقوى سنداً ومعنى من الآخر، وهو أكثر شواهد وأوضح دلائل؛ والله أعلم.
إنها ليست دعوة إلى الجرأة على صحيح الإمام البخاري، ذلك الحصن المحكم المتين؟ ولكنها دعوة إلى فهم منهج البخاري بتثبت وتدبر يزيدان طالب العلم بصيرة بحقيقة منزلة هذا الكتاب العظيم ومنزلة صاحبه ذلكم العالم الجبل الذي منَّ الله به على هذه الأمة التي تكفل الله بحفظ دينها وسنة نبيها، وقد حصل ذلك – بحمد الله - بالبخاري وأمثاله رحمهم الله تعالى.
إنني تكلمت في هذا الحديث ولي سلف تقدم نقْلُ كلامهم، وهم الإسماعيلي الحافظ الناقد الجهبذ، والبيهقي الحافظ الواسع الاطلاع على أقوال علماء العلل، ثم الداودي؛ ومستندي في هذا الأصل ما شرحه شيخ الإسلام ابن تيمية من طريقة الإمام البخاري في الأحاديث المتعارضات، وجرّأني على ذلك أيضاً ما اتضح لك من ضعف طريقة المتأخرين في الكلام على هذا الحديث، كما تقدم، فهذا يتكلم بتكلف ليجمع بين الأحاديث المتعارضات، وذاك يُبعد في التأويل بلا دليل، وثالث لا أدري كيف أعبر عن صنيعه، هل أقول: كلامه يشعر بنقد طريقة أنس رضي الله تعالى عنه في رواية الحديث، أو أقول: ألقى اللومَ في هذا الاختلاف بين ظاهر الروايتين على أنس رضي الله عنه دون غيره من رجال السند؟
إن القول بأن ابن المثنى وهِمَ لهو أهون ألف مرة وأقرب ألف مرة وأصح ألف مرة من أن يقال: إن أنس جزم بأمر لم يحط به علماً، وصرح بخبر يستحيل أن يعلمه على حقيقته، بسبب كثرة الصحابة وانتشارهم ونحو ذلك مما تقدم التعليل به في كلام المازري.
اللهم عفواً وغفراً.
¥