وعلى أية حال فالمراد هنا تقرير حقيقة لا نزاع فيها، وهي أن رواة الحديث بمن فيهم من قيل فيه: "صدوق" ومن في حكمه، يحرصون على أن يحظوا بأحاديث لا يشاركهم في روايتها أحد آخر، ومن لم يفهم هذا الدافع يظن أن تفرد الصدوق دلالة على الخطأ لعدم رواية بعض أقرانه من الثقات لذلك الحديث، والواقع أنه فعل ذلك عن قصد ليحظى بالتفرد من دونهم، ففي عدم الأخذ بتفرده رد لبعض السُنة بسبب الغفلة عن هذا الدافع النفسي الفطري.
المطلب الثاني: التوقف في تفرد الصدوق.
علمنا فيما مضى أن جمهور المتأخرين على المذهب القائل بقبول تفرد الصدوق، حتى كاد مذهب المتوقفة في تفردات بعض الثقات والصدوقين أن يندثر، وتنطمس معالمه، لولا أن الحافظين الذهبي وابن رجب قد نبها عليه، وعملا به، وطرحوا تحقيقات نفيسة وتدقيقات مليحة في ذلك.
يقول الإمام الذهبي: (وقد يتوقف كثير من النقاد في إطلاق (الغرابة) مع (الصحة)، في حديث أتباع الثقات، وقد يوجد بعض ذلك في الصحاح دون بعض، وقد يُسمي جماعة من الحفاظ الحديثَ الذي ينفرد به مثل هشيم، وحفص بن غياث: منكراً) [13].
ويقول ابن رجب: (وانفراد الراوي بالحديث، وإن كان ثقة، هو علة في الحديث يوجب التوقف فيه، وأن يكون شاذاً ومنكراً، إذا لم يرو معناه من وجه يصح.
وهذه طريقة أئمة الحديث المتقدمين كالإمام أحمد، ويحيى القطان، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني وغيرهم) [14].
ويقول في موضع آخر: (وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا تفرد به واحد، وإن لم يرو الثقات خلافه: (إنه لا يُتابع عليه"، ويجعلون ذلك علة فيه، اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه، واشتهرت عدالته وحديثه كالزهري ونحوه، وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أيضاً، ولهم في كل حديث نقد خاص، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه) [15].
ويقول أيضاً عن القاعدة التي يتبعها الإمام أحمد بن حنبل في تفرد الثقة: (لأن قاعدته: أن ما انفرد به ثقة فإنه يتوقف فيه حتى يُتابع عليه، فإن توبع عليه زالت نكارته، خصوصاً إن كان الثقة ليس بمشتهر في الحفظ والإتقان، وهذه قاعدة يحيى القطان، وابن المديني وغيرهما) [16].
وهذه النصوص وإن كانت في حق بعض الثقات، فهي تنطبق على من قيل فيه: (صدوق) من باب أولى لأنه أقل ممن قيل فيه: (ثقة) من حيث المرتبة، ثم إن الثقة هنا وفي بعض المواضع أحياناً تستعمل بمعنى القبول أي الراوي الذي يصلح حديثه للقبول، والصدوق داخل في ذلك ضمناً بلا شك.
وقد ألمح الحافظ ابن الصلاح قبل الذهبي وابن رجب إلى ذلك في قوله: (وإطلاق الحكم على التفرد بالرد أو النكارة أو الشذوذ موجود في كلام كثير من أهل الحديث) [17]، لكنه لم يوضح الأمر كما فعلا، ولم يبين هل إطلاقهم على تفرد الثقة أم الصدوق أم الضعيف أم مطلق التفرد؟
وجاء الحافظ ابن حجر فأكمل النقص ووضح الخفي في كلام ابن الصلاح فقال: (وهذا مما ينبغي التيقظ له، فقد أطلق الإمام أحمد والنسائي وغير واحد من النقاد لفظ (المنكر) على مجرد التفرد، لكن حيث لا يكون المتفرد في وزن من يحكم لحديثه بالصحة بغير عاضد يعضده) [18].
وتقرير هذا الرأي ونسبته لبعض النقاد أو لكثيرٍ منهم موجود في كلام بعض الحفاظ المتقدمين على ابن الصلاح، ولكننا أحببنا أن نذكر هذا المذهب أولاً من حيث الإجمال، ومن كلام كبار المصنفين في علم أصول الحديث، ثم نفصل في ذلك.
وأقدم من صرَّح بهذا المذهب وقرَّره بوصفه قاعدة الحافظ أبوبكر البرديجي (ت301هـ) [19]- وهو معاصر لعدد من كبار الأئمة كالبخاري ومسلم والذهلي وأبي داود والترمذي والنسائي وغيرهم -، فقد قال: (المنكر هو التي يحدث به الرجل عن الصحابة، أو عن التابعين عن الصحابة، لا يُعرف ذلك الحديث، وهو متن الحديث إلا من طريق الذي رواه، فيكون منكراً) [20].
وقد وضح ابن رجب أن هذا الكلام أورده البرديجي في سياق ما انفرد به شعبة، أو سعيد بن أبي عروبة، أو هشام الدستوائي بحديث عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال البرديجي بعد ذلك: (فأما أحاديث قتادة الذي يرويها الشيوخ مثل حماد ابن سلمة، وهمام، وأبان، والأوزاعي، يُنظر في الحديث، فإن كان الحديث يحفظ من غير طريقهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن أنس بن مالك من وجه آخر لم يُدفع.
¥