وإن كان لا يُعرف عن أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا من طريق عن أنس إلا من رواية هذا الذي ذكرتُ لك، كان منكراً) [21].
وقال أيضاً: (إذا روى الثقة من طريق صحيح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً لا يُصاب إلا عند الرجل الواحد، لم يضره أن لا يرويه غيره إذا كان متن الحديث معروفاً، ولا يكون منكراً ولا معلولاً) [22].
وقال أيضاً: (لا يُلتفت إلى رواية الفرد عن شعبة، ممن ليس له حفظ ولا تقدم في الحديث من أهل الإتقان) [23].
وكلام البرديجي إن عُمم على كل الثقات بدون تمييز للحفاظ المتقنين كشعبة والزهري وابن المسيب وغيرهم، عمن سواهم؛ ففيه نظر كبير، ويدل على تشدد يفوق تشدد يحيى بن سعيد القطان وأبي حاتم الرازي، ويكون شاملاً من باب أولى تفرد الصدوق ومن في حكمه.
والذي يعنينا من كلامه ما ذكره عن تفرد الشيوخ كحماد بن سلمة وهمام والأوزاعي عن قتادة، ومن المعلوم أن اصطلاح الشيوخ يُقصد به في هذا السياق وما يشبهه من يكون دون الأئمة الحفاظ [24]، وعلى هذا فمنزلة حماد بن سلمة إذا روى عن ثابت البناني مثلاً تكون أعلى وأقوى من حديثه عن قتادة، وذلك لما عُرف من شدة تثبته وإتقانه فيما يرويه عن ثابت، فالراوي الواحد تتنوع مرتبته باختلاف من يروي عنه وقس على ذلك غيره.
ومما يدل على أن بعض النقاد من المحدثين كان يرد بعض الأحاديث بالتفرد، ما وجدناه في كلام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت310هـ) عند كلامه على علل الأخبار التي يخرجها في كتابه (تهذيب الآثار) يقول: (وهذا الحديث عندنا صحيح سنده، لا علة فيه توهنه، ولا سبب يضعفه، وقد يجب أن يكون على مذهب الآخرين سقيماً غير صحيح، لأنه خبر لا يعرف له مخرج عن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه، والخبر إذا انفرد بنقله عندهم منفرد وجب التثبت فيه) [25].
فهو ينقل عن غيره من أهل العلم أن الحديث إذا انفرد به منفرد ولو كان ثقة يجب التثبت في ذلك الخبر، وذلك في عشرات [26] النصوص مما يدل على انتشار هذا الأمر واشتهاره، وإن كان الطبري كما هو ظاهر كلامه لا يرى ذلك سبباً لرد الحديث، ولكنه يورد من المتابعات والشواهد ما يجعل تلك العلة لا محل لها.
وممن نقل التوقف في حديث الصدوق ابن أبي حاتم فقد قال: (يكتب حديثه وينظر فيه) وقد شرحنا معنى كلامه هذا فيما تقدم وأنه لا يعني التوقف مطلقاً.
وقد سمى أبو عبدالله الحاكم [27] ما ينفرد به الثقة ولا يكون له أصل متابع له شاذاً، وهذا المذهب كما قال النووي: (مذهب جماعات من أهل الحديث، وقيل إنه مذهب أكثرهم) [28]، مع العلم أن الحاكم لا يرى ذلك من قسم المردود بل هو عنده من الصحيح المتفق عليه [29]، وتسمية المنفرد بالشاذ دال على الرد كما سيأتي في كلام الخليلي وإن لم يصرح به الحاكم.
وقال الحافظ أبو يعلى الخليل بن عبدالله الخليلي (ت446هـ): (وأما الشواذ فقد قال الشافعي وجماعة من أهل الحجاز: الشاذ عندنا ما يرويه الثقات على لفظ واحد، ويرويه ثقة خلافه زائداً أو ناقصاً.
والذي عليه حفاظ الحديث: الشاذ: ما ليس له إلا إسناد واحد يشذ بذلك شيخ، ثقة كان أو غير ثقة. فما كان من غير ثقة فمتروك لا يُقبل، وما كان عن ثقة يتوقف فيه ولا يحتج به) [30].
وقال في موضع آخر: (وأما الأفراد: فما يتفرد به حافظ، مشهور ثقة، أو إمام من الحفاظ والأئمة؛ فهو صحيح متفق عليه) [31]، و (نوع آخر من الأفراد: لا يحكم بصحته ولا بضعفه، ويتفرد به شيخ لا يعرف ضعفه ولا توثيقه) [32].
وقال الحافظ ابن رجب موضحاً كلام الخليلي: (وفرَّق الخليلي بين ما ينفرد به شيخ من الشيوخ الثقات، وبين ما ينفرد به إمام أو حافظ، فما انفرد به إمام أو حافظ قُبِل واحتج به، بخلاف ما تفرد به شيخ من الشيوخ، وحكى ذلك عن حفاظ الحديث) [33].
¥