ـ[محمد بن عبدالله]ــــــــ[14 - 12 - 06, 12:09 م]ـ
ثانياً: أحمد بن حنبل:
سرد الحافظ ابن رجب الحنبلي بعض النصوص التطبيقية للإمام أحمد محتجاً بها على أنه لا يقبل تفرد الثقة، فقد قال بعد أن نقل كلام البرديجي السابق في تعريف (المنكر): (وهذا كالتصريح بأنه كل ما ينفرد به ثقة عن ثقة ولا يُعرف المتن من غير ذلك الطريق فهو منكر، كما قاله الإمام أحمد في حديث عبدالله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في (النهي عن بيع الولاء وعن هبته) [1].
وهذا التعميم عندي فيه بعض النظر؛ إذ مقتضاه أن الإمام أحمد لا يحتج بتفرد الثقة مطلقاً ولو لم يخالف، وهذا فيه ما فيه كما سيظهر في بعض الأمثلة الآتية.
(النص الأول): تكلم الإمام أحمد في حديث (نهى عن بيع الولاء وعن هبته) فقال: (لم يُتابع عبدالله بن دينار عليه)، قال ابن رجب: (وأشار إلى أن الصحيح ما روى نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الولاء لمن أعتق) لم يذكر النهي عن بيع الولاء وهبته [2].
قلتُ: وروى نافع عن ابن عمر من قوله النهي عن بيع الولاء وعن هبته، غير مرفوع، وهذا مما يعلل به عبدالله بن دينار) [3].
وعبدالله بن دينار ثقة مستقيم الحديث عند الإمام أحمد [4]، وعند غيره، ولكن استنكار الإمام أحمد - فيما يظهر لي - راجع إلى ما ذكره ابن رجب من مخالفة وليس لمجرد التفرد فقط.
وحديث عبدالله بن دينار في الصحيحين [5]، وكذلك حديث نافع [6] (الولاء لمن أعتق) فيهما أيضاً، وأحمد يقدم نافعاً على ابن دينار، ويرى أنه أكبر وأقوى منه [7]، ولهذا رجح روايته.
فلا يستقيم احتجاج ابن رجب في النص السابق بكلام أحمد على هذا الحديث على أن تفرد الثقة يعد منكراً؛ لأن الثقة قد خولف ممن هو أقوى عند الإمام أحمد ولذا تكلم في تفرده.
ويشبه ما تقدم قول ابن رجب بعد كلامه السابق: (وكذا قال أحمد في حديث مالك عن الزهري عند عروة عن عائشة: (إن الذين جمعوا الحج والعمرة طافوا حين قدموا لعمرتهم، وطافوا لحجهم حين رجعوا من منى) [8].
قال: (ولم يقل هذا إلا مالك)، وقال: (ما أظن مالكاً إلا غلط فيه، ولم يجيء به أحد غيره)، وقال مرة: (لم يروه إلا مالك، ومالك ثقة).
ولعل أحمد إنما استنكره لمخالفته الأحاديث في أن القارن يطوف طوافاً واحداً) [9].
ولهذه العلة التي أبانها ابن رجب فلا يستقيم له الاستدلال بالنص الآنف على دعواه؛ لأن الثقة تفرد هنا بشيء خولف فيه ممن هو أولى منه من حيث العدد كما هو ظاهر العبارة.
(النص الثاني): قال عبدالله بن أحمد: (سألتُ أبي: ما الذي يعتمد عليه في مواقيت الصلاة من الأحاديث التي جاءت؟ وأي حديث أقوى؟ والحديث الذي روى ابن المبارك عن الحسين بن علي عن وهب بن كيسان عن جابر ما ترى فيه؟ وكيف حال الحسين؟
فقال أبي: (أما الحسين، فهو أخو أبي جعفر محمد بن علي، وحديثه الذي روى في المواقيت حديث ليس بالمنكر، لأنه قد وافقه على بعض صفاته غيره) [10].
والحسين هو ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم- ويقال له: حُسين الأصغر، وثقه النسائي وابن حبان [11]، والحديث رواه الحسين عن وهب عن جابر في إمامة جبريل عليه السلام بالنبي صلى الله عليه وسلم لبيان مواقيت الصلوات الخمس [12].
قال الترمذي: (وحديث جابر في المواقيت قد رواه عطاء بن أبي رباح، وعمرو ابن دينار وأبو الزبير عن جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحو حديث وهب بن كيسان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم) [13].
وقد فسر ابن رجب كلام أحمد بقوله: (وإنما قال الإمام أحمد ليس بالمنكر لأنه قد وافقه على بعضه غيره، لأن قاعدته: أن ما انفرد به ثقة فإنه يتوقف فيه حتى يُتابع عليه، فإن توبع عليه زالت نكارته، خصوصاً إن كان الثقة ليس بمشتهر في الحفظ والإتقان) [14].
وفي هذا النص تقييد مهم جداً من ابن رجب لما أطلقه في (شرح علل الترمذي) من أن أحمد يعد تفرد الثقة منكراً ما لم يتابع عليه، ولا شك أن حسيناً الأصغر وإن وثق فليس هو ممن اشتهر بالضبط والإتقان كمالك والزهري وشعبة وسفيان الثوري وغيرهم، فلابد من الانتباه لهذا القيد لأهميته.
¥