(النص الثالث): ذكر ابن رجب عن الإمام أحمد نصوصاً تفيد أنه يطلق النكارة على تفرد رواة أُخرج لهم في الصحيحين، مما يعني أنه يستنكر تلك التفردات ولا يقبلها، وإلا لقال فيها أنها غرائب أو غريبة بدل مناكير ومنكرة.
قال: (وقال أحمد في بُريد بن عبدالله بن أبي بردة: (يروي أحاديث مناكير) [15] وبُريد وثقه ابن معين والعجلي وأبو داود والترمذي وابن عدي، وتكلم فيه أبو حاتم الرازي والنسائي ولم يرو عنه القطان ولا ابن مهدي، وقال النسائي في رواية: ليس به بأس، وقال ابن حبان: يخطىء [16].
وقال ابن حجر: (احتج به الأئمة كلهم، وأحمد وغيره يطلقون المناكير على الأفراد المطلقة) [17].
وما أُخرج له في الصحيحين فكله عن أبيه عبدالله بن أبي بردة فتفرده عنه محتمل، ولعل أحمد استنكر بعض حديثه عن غير أبيه، وعلى أية حال فكلام بعض النقاد فيه دال على أنه ليس في الضبط والإتقان كمشاهير المتقنين المتفق على إمامتهم وجودة ضبطهم.
(النص الرابع): ثم قال ابن رجب: (وقال أحمد في محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي وهو المنفرد برواية حديث (الأعمال بالنيات) [18]: (في حديثه شيء، يروي أحاديث مناكير أو قال منكرة) [19].
أما حديث (الأعمال بالنيات) فلا أعلم أحداً من فقهاء الأمة تخلف عن الاحتجاج به، وقد وصفه أحمد بأنه من أصول الإسلام، وقال: (ينبغي أن يبدأ به في كل تصنيف) [20].
ولا ندري على وجه التحديد ما الذي أنكره أحمد من حديث التيمي، وهل خولف في ذلك أم لا؟ ولا يستقيم الاستدلال إلا بنفي احتمال وجود مخالفات لتلك الأحاديث التي استنكرها أحمد، ولو كان كل تفرد من الثقة لا يقبل عنده لما احتج بحديث (النيات) مع تفرد التيمي به، لا سيما مع اتفاق النقاد أنه ليس للحديث إسناد صحيح إلا سند التيمي [21].
وقد قال ابن حجر في ترجمة التيمي: (المنكر أطلقه أحمد بن حنبل وجماعة على الحديث الفرد الذي لا متابع له، فيُحمل هذا على ذلك، وقد احتج به جماعة) [22].
ولا يُظن أن معنى كلام ابن حجر أن أحمد يطلق المنكر على حديث غير مردود عنده، ولكن قصد الحافظ ابن حجر - فيما ظهر لي- أن هذا مذهب لأحمد وغيره من النقاد لا يقبلون الحديث الفرد ويسمونه منكراً، ولا يعنون بالمنكر ما استقر تعريفه عند المتأخرين من تفرد الضعيف أو مخالفة من لا يحتج بحديثه لمن هو أولى منه، وهذا هو الراجح عند ابن حجر ولذا نبَّه على اصطلاح أحمد ليبين أنه غير راجح عنده.
(النص الخامس): ثم قال ابن رجب: (وقال في زيد بن أبي أُنيسة: (إن حديثه لحسن مقارب، وإن فيها لبعض النكارة، قال: وهو على ذلك حسن الحديث).
قال الأثرم: قلت لأحمد: (إن له أحاديث إن لم تكن مناكير فهي غرائب، قال: نعم وهؤلاء الثلاثة -يعني بُريداً والتيمي وابن أبي أُنيسة- متفق على الاحتجاج بحديثهم في الصحيح، وقد استنكرها أحمد ما تفردوا به) [23].
أقول كما قلت سابقاً: هذا الاستدلال لا يصح إلا بعد إثبات أن أحمد لم يستنكر تلك الأحاديث إلا لمجرد التفرد فقط، ولا توجد مخالفات أو قرائن أوجبت في نظره استنكار تلك الأحاديث، وصاحبا الصحيح ينتقيان أحاديث الرواة ولا يحتجان بكل مروياتهم كما هو معلوم ومشتهر، فيقوم احتمال أنهما لم يحتجا بكثير من تلك الأحاديث التي استنكرها أحمد لأولئك الرواة.
وزيد بن أبي أنيسة لم يحتج به البخاري في الأصول إنما ذكره في موضع واحد في المتابعات [24]، وفي موضع آخر ذكر روايته عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفاً في التفسير [25]، وأما مسلم فقد احتج به في عدة أحاديث.
وظاهر النقولات عن الإمام أحمد أنه يراه وسطاً ليس بثقة متقن، فقد سأله المروذي عنه فحرك يده وقال: (صالح، وليس هو بذاك) [26].
وروى عنه أبو داود أنه قال فيه: (ليس به بأس) [27].
فلعل أحمد لكونه يراه لا يخلو من بعض النقص في ضبطه استنكر بعض تفرداته التي لا تحتمل لمثله.
(النص السادس): ثم قال ابن رجب: (وكذلك قال في عمرو بن الحارث: (له مناكير)، وفي الحسين بن واقد، وخالد بن مخلد، وفي جماعة خُرج لهم في الصحيح بعض ما يتفردون به) [28].
ونص عبارة الإمام أحمد في عمرو بن الحارث توضح أنه لم يستنكر بعض حديثه للتفرد فقط كما يوهم كلام الحافظ ابن رجب، فقد ذكر الأثرم: (عن أحمد: عمرو بن الحارث فحمل عليه حملاً شديداً، قال: (يروي عن قتادة أحاديث يضطرب فيها ويخطئ) [29].
¥