وقال أيضاً: (ما في هؤلاء المصريين أثبت من الليث بن سعد، لا عمرو بن الحارث ولا أحد، وقد كان عمرو بن الحارث عندي ثم رأيت له أشياء مناكير) [30].
فسبب الاستنكار واضح في النص الأول أنه بسبب الاضطراب والخطأ.
وأما الحسين بن واقد فالظاهر أن أحمد لا يراه في مرتبة الثقة المتقن فقد سئل عنه فقال: (ليس بذاك) [31]، وقال: (في أحاديثه زيادة ما أدري أي شيء هي، ونفض يده) [32].
وأنكر أحاديثه عن عبدالله بن بُريدة، وذلك فيما يظهر لي لكثرة تفرداته عنه، ولأنه لا يُحتمل له مثل ذلك لعدم بلوغه مرتبة الثقة المتقن الذي يقبل تفرده ولو لم يخالف.
وأما خالد بن مخلد القَطَواني فهو كذلك مرتبته لا تصل لمرتبة الثقة المتقن، وقد تكلم عدد من النقاد فيه [33]، وقد سرد الذهبي جملة من تفرداته التي خالف فيها من هو أولى منه في الحفظ والإتقان مما يدل على وجود شذوذات في بعض مروياته، ثم ذكر الذهبي حديثه الذي أخرجه البخاري (من عادى لي ولياً ... ) [34]، ثم قال: (فهذا حديث غريب جداً، لولا هيبة الجامع الصحيح لعدوه في منكرات خالد بن مخلد، وذلك لغرابة لفظه ... ) [35].
فالظاهر أن أحمد استنكر بعض تلك الأحاديث الشاذة التي خولف فيها، ولهذا لم يقبل بعض تفرداته لأنه ليس في حكم من يحتمل له التفرد في كل ما رواه ولو لم يخالف كما هو حال مشاهير المتقنين الأثبات كشعبة والثوري وغيرهما.
والخلاصة التي انتهى إليها الحافظ ابن رجب صاغها في قوله: (فتلخص من هذا أن النكارة لا تزول عند يحيى القطان، والإمام أحمد، والبرديجي وغيرهم من المتقدمين إلا بالمتابعة وكذلك الشذوذ كما حكاه الحاكم.
وأما الشافعي وغيره فيرون أن ما تفرد به ثقة مقبول الرواية، ولم يخالفه غيره؛ فليس بشاذ، وتصرف الشيخين يدل على مثل هذا المعنى) [36].
ولكن فيما أطلقه بعض النظر خاصة في حق الإمام أحمد، وكذا القطان كما ظهر لي من نصوصه السابقة، أما البرديجي فظاهر كلامه الذي نقله ابن رجب يحتمل الإطلاق.
والذي أراه على ضوء ما ساقه ابن رجب من نصوص عن القطان والإمام أحمد أن إطلاق القول بأن النكارة لا تزول عندهما إلا بالمتابعة فيه نظر، والأصل عند نقاد المحدثين أن الراوي الثقة المتقن حديثه صحيح معمول به ولو لم يتابع، وما ورد في بعض النصوص من تكلم في بعض تفردات الثقات فهو راجع لأحد أسباب ثلاثة:
1 - المخالفة سنداً أو متناً ممن هو أولى صفة أوعدداً، كما وضحته في بعض النصوص السابقة عن القطان والإمام أحمد، ودرجات المخالفة تتفاوت من حيث القوة.
2 - أن لا يكون ذلك الراوي ثقة عند ذلك الإمام وإنما دون ذلك، وإن كان ثقة عند نقاد آخرين، كما وضحته أيضاً في بعض النصوص السابقة.
3 - وجود قرينة من القرائن التي تبعث الشك في ضبط الثقة للحديث الذي انفرد به.
ومن المآخذ المنهجية على الحافظ ابن رجب في أسلوب استدلاله على دعواه، أنه أورد نصوصاً جزئية محدودة العدد ثم بنى عليها قولاً عاماً شديد العمومية، ولا يصح في ميزان النقد العادل مثل ذلك، بل الواجب في مثل هذه الدعاوى العامة مراعاة النصوص التي قَبِل فيها القطان والإمام أحمد تفرد الثقة وإن لم يُتابع، كقول أحمد لما سئل: (من تابع عفان -بن مسلم- على حديث كذا وكذا؟ قال: وعفان يحتاج إلى أن يتابعه أحد.؟!) [37]، فهذا النص وما يشبهه، بالإضافة للأحاديث التي حكم عليها الإمام أحمد مثلاً بالغرابة ولم يستنكرها، وكذا ما استحسنه من أحاديث أفراد ولم يطعن فيها، كل ذلك موجب لعدم الأخذ بالتعميم والإطلاق الذي صاغه الحافظ ابن رجب في صورة تحرير لمحل النزاع، ولعله فطن في كتابه (فتح الباري) إلى عدم دقة إطلاقه فقيده بـ"إذا كان الثقة ليس بمشتهر بالحفظ والإتقان) كما تقدم آنفاً.
وأما من كان دون مرتبة (الثقة) كالصدوق ومن في حكمه، فقد وجد للإمام أحمد ولغيره من النقاد نصوص تدل على عدم قبول بعض ما ينفرد به أولئك، لا سيما إذا كان تفردهم عن رواة ثقات لهم أصحاب ملازمون لهم قد أكثروا عنهم كما في النص الآتي.
¥