(النص السابع): سئل الإمام أحمد عن عبدالرحمن بن أبي المَوَال المدني فقال: (عبدالرحمن لا بأس به، كان محبوساً في المُطْبَق [38] حيث هزم هؤلاء، يروي حديثاً لابن المنكدر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الاستخارة، ليس يرويه أحد غيره، هو منكر. قلتُ: منكر؟ قال: نعم، ليس يرويه غيره، وأهل المدينة إذا كان حديث غلط يقولون: ابن المنكدر عن جابر، وأهل البصرة يقولون: ثابت عن أنس، يحيلون عليهما) [39].
ففي هذا النص تصريح واضح وجلي أن الإمام أحمد استنكر هذا الحديث لأن راويه عنده في مرتبة (لا بأس به) ولا يحتمل له أن ينفرد عن محمد بن المنكدر المحدث المشهور بحديث في صلاة الاستخارة مع كثرة الحاجة لاستعمالها كما في لفظ الحديث نفسه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها .. )، فعد تفرد مثل هذا منكراً مع أنه لم يُخالف.
وقد ذهب الإمام البخاري إلى صحة الحديث فأخرجه في صحيحه [40] عن ابن أبي الموال، وذكر له الحافظ ابن حجر عدة شواهد [41]، وكذا أشار ابن عدي [42] إلى أن له شواهد من طرق أخرى عن غير جابر -رضي الله عنه-.
(النص الثامن): قال الأثرم: (قال أبو عبدالله في حَرَمي بن عُمارة كلاماً معناه: أنه صدوق، ولكن كانت فيه غفلة، فذكرت له عن علي بن المديني عن حرمي بن عمارة عن شعبة عن قتادة عن أنس: (من كذب .. ) فأنكره.
وقال: علي أيضاً حدَّث عنه حديثاً آخر منكراً في الحوض عن حارثة بن وهب، فقلت: حديث معبد بن خالد؟ قال: نعم
[فقلت] [43]: ترى هذا حقاً؟ فتبسم كالمتعجب) [44].
قال العقيلي: (أنكرهما من حديث شعبة، وهما معروفان من حديث الناس) [45] فتفرد من هو في مرتبة (صدوق) بما لا يحتمل له يعده أحمد منكراً؛ لأنه تفرد عن شعبة من المعروف مدى عناية عدد من كبار الحفاظ من تلامذة شعبة بحديث شيخهم مع ملازمتهم له السنين الطوال كعبدالرحمن بن مهدي وغُندر ويحيى بن سعيد القطان وغيرهم.
وحديث حرمي عن شعبة عن معبد بن خالد عن حارثة مرفوعاً في (الحوض)، أخرجه الشيخان [46] وذكرا متابعة ابن أبي عدي لحرمي.
وحديثه عن شعبة عن قتادة عن أنس مرفوعاً: (من كذب علي ... )، رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة من عتاب عن أنس [47].
وكما هو ظاهر كلام العقيلي فإن إنكار أحمد لجزئية التفرد عن شعبة وليس إنكاراً للمتن أيضاً.
وقد وقفت على عدة نصوص أخرى غير ما تقدم ولكن بعد دراستها ترجح لي أن الراوي المنفرد قد خولف فيما رواه، ولذلك تركتها لأنها ليست على شرطنا فمن ذلك مثلاً قول أحمد: (محمد بن ثابت العبدي، ليس به بأس، لكن روى حديثاً منكراً في التيمم، لا يتابعه أحد) [48]. وقد ذكر البخاري والعقيلي أنه خولف ممن هو أولى منه [49].
وغير ذلك كثير مما وقفتُ عليه ولم أُدخله هنا، كما أنني أيضاً لم أذكر بعض النصوص التي اتضح لي أن أحمد استنكرها لوجود قرينة وإن كانت لا ترقى لمستوى المخالفة الصريحة، ولكنها تبعث الشك، ومن ذلك على سبيل المثال: حديث محمد بن عبدالله الأنصاري - وهو ثقة [50]- عن حبيب بن الشهيد عن ميمون بن مهران عن ابن عباس: (احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم صائم)، فقد أنكره الإمام أحمد وغيره [51]، والسبب كما وضحه بعضهم [52] أن المحفوظ عن حبيب حديثه عن ميمون عن يزيد بن الأصم: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال) [53]، ووهم الأنصاري فيه لأن المحفوظ عن حبيب بن الشهيد حديث زواج المحرم عندما يتحلل، وليس احتجام المحرم الصائم، كما أنه ليس في الكتب الستة ومسند أحمد رواية ثابتة لحبيب عن ميمون إلا حديث زواج ميمونة فقط، مما يقوي احتمال خطأ الأنصاري، لأن الثقات إنما رووا لحبيب عن ميمون حديثاً واحداً فقط، فتفرده بمتن آخر يوجب الشك.
والأمثلة على ذلك عديدة، والمقصود إثبات أن الإمام أحمد استنكر بعض تفردات من هم في مرتبة (الصدوق) وما في حكمها، ولو لم يخالفوا إذا كان تفردهم غير محتمل كما بينا في النصين السابع والثامن، ولا أُعمم ذلك في كل تفرد بل ذلك مقيد بأن يكون التفرد غير محتمل، وذلك لأني وجدته رحمه الله قد قبل بعض تفردات من كان في تلك المرتبة كما سيأتي ذكره في المطلب القادم.
ثالثاً: أبو حاتم الرازي.
¥