سبق أن ذكرنا في المبحث السابق عدة نصوص عن أبي حاتم الرازي تدل على عدم احتجاجه بمن يقول فيه (صدوق) ومن في حكمه، كما وجدناه قد قبل وقوى بعض ما تفرد به أصحاب هذه المرتبة.
وله نصوص كثيرة جداً في كتاب (العلل) لابنه دالة على أنه يستنكر بعض تفردات الرواة ممن هم في نظره لم يبلغوا درجة من يقبل ذلك منهم، وقد ذكرنا سابقاً أن الحجة في اصطلاحه ليست كما عند الآخرين لما عرف من تشدده رحمه الله.
وفيما يلي بعض النصوص الدالة على مذهبه في ذلك:
(النص الأول): قال ابنه: (سألتُ أبي عن حديث رواه بُرد بن سنان عن الزهري عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه كان يصلي فاستفتحت الباب، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ففتح الباب ومضى في صلاته) [54].
قلت لأبي: ما حال هذا الحديث؟
فقال أبي: لم يرو هذا الحديث أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم غير بُرْد"، وهو حديث منكر، ليس يحتمل الزهري مثل هذا الحديث، وكان بُرد يرى القدر [55].
وبُرد قال فيه أبو حاتم: (كان صدوقاً) [56]، ووثقه ابن معين [57]، وقال أبو زرعة: لا بأس به [58].
فعد أبو حاتم تفرد هذا الصدوق عن الزهري منكراً مع أنه لم يخالف غيره، وحكم عليه الشيخ الألباني [59]- رحمه الله - بالحسن لذاته لأنه يحسن تفرد الصدوق، وأبو حاتم يرى أن هذا التفرد عن الزهري في جلالته وكثرة الملازمين له لا يُحتمل، وإلا فأين كان أصحاب الزهري المكثرين عنه عن هذا الحديث؟!
(النص الثاني): قال ابن أبي حاتم: (سألت أبي عن حديث أوس بن ضمعج عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال: قد اختلفوا في متنه، رواه قطن والأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أوس بن ضمعج عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسُنة)، ورواه شعبة والمسعودي عن إسماعيل بن رجاء لم يقولوا: (أعلمهم بالسنة).
قال أبي: كان شعبة يقول: إسماعيل بن رجاء كأنه شيطان من حُسن حديثه، وكان يهاب هذا الحديث، يقول: حكم من الأحكام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشاركه أحد.
قال أبي: شعبة أحفظ من كلهم.
قال أبو محمد: أليس قد رواه السُدي عن أوس بن ضمعج؟
قال: إنما رواه الحسن بن يزيد الأصم عن السُدي وهو شيخ، أين كان الثوري وشعبة عن هذا الحديث؟ وأخاف أن لا يكون محفوظاً) [60].
وحديث إسماعيل بن رجاء هذا صححه مسلم وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم [61]، وقد وثقه أبو حاتم [62]، ومع ذلك توقف هنا عن حديثه لما تفرد بحكم من الأحكام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه لم يخالف، والاختلاف في المتن إنما هو في زيادة عبارة فقط وليس اضطراباً كما هو صريح كلامه.
ولما ذكر له ابنه أن إسماعيل بن عبدالرحمن السُدي قد تابع إسماعيل بن رجاء لم يقبل هذه المتابعة لأنها من رواية الحسن بن يزيد مع أنه لما سئل عنه قال: (لا بأس به) [63]، وعلل عدم قبوله لروايته بقوله: (أين كان الثوري وشعبة عن هذا الحديث) أي لماذا لم يروياه عن السدي؟ وإنما رواه شعبة عن إسماعيل بن رجاء فقط ولو كان عند السُدي لرواه عنه أيضاً ولما تهيب حديث ابن رجاء.
ولا شك أن عدم قبول أبي حاتم لحديث إسماعيل بن رجاء تشدد خالفه فيه عدد من الأئمة كمسلم وابن خزيمة وغيرهما ممن احتج بهذا الحديث وعمل به.
ويظهر من هذا النص بجلاء أن أبا حاتم يتوقف في تفرد بعض من يوثقه ولم يخالف، وعلى هذا فتفرد الصدوق ومن في حكمه بحكم من الأحكام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجب التوقف أو النكارة عنده من باب أولى.
(النص الثالث): وقال ابن أبي حاتم: (وسمعت أبي يقول: طَلْق بن عم حفص بن غياث، وهو كاتب حفص بن غياث [64]، روى حديثاً منكراً عن شريك وقيس - ابن الربيع - عن - أبي حَصين عثمان بن عاصم- عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أَدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) [65].
قال أبي: ولم يرو هذا الحديث غيره) [66].
وطلق أخرج له البخاري في صحيحه، ووثقه العجلي وابن نمير وابن حبان والدارقطني [67]، وقال أبو داود: (صالح) [68]، ولم أجد لأبي حاتم فيه كلاماً.
¥