وَيَجِب حَمْل حَدِيث عَائِشَة عَلَى مَا عَدَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيث أُمّ سَلَمَة , فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لِيَفْعَل مَا نَهَى عَنْهُ , وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا.
وَأَيْضًا: فَعَائِشَة إِنَّمَا تَعْلَم ظَاهِر مَا يُبَاشِرهَا بِهِ , أَوْ يَفْعَلهُ ظَاهِرًا مِنْ اللِّبَاس وَالطِّيب. وَأَمَّا مَا يَفْعَلهُ نَادِرًا , كَقَصِّ الشَّعْر وَتَقْلِيم الظُّفْر , مِمَّا لَا يُفْعَل فِي الْأَيَّام الْعَدِيدَة إِلَّا مَرَّة. فَهِيَ لَمْ تُخْبِر بِوُقُوعِهِ مِنْهُ فِي عَشْر ذِي الْحِجَّة , وَإِنَّمَا قَالَتْ: " لَمْ يَحْرُم عَلَيْهِ شَيْء ".
وَهَذَا غَايَته: أَنْ يَكُون شَهَادَة عَلَى نَفْي , فَلَا يُعَارِض حَدِيث أُمّ سَلَمَة.
وَالظَّاهِر: أَنَّهَا لَمْ تُرِدْ ذَلِكَ بِحَدِيثِهَا , وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَاحْتِمَال تَخْصِيصه قَرِيب , فَيَكْفِي فِيهِ أَدْنَى دَلِيل. وَخَبَر أُمّ سَلَمَة صَرِيح فِي النَّهْي , فَلَا يَجُوز تَعْطِيله أَيْضًا.
فَأُمّ سَلَمَة تُخْبِر عَنْ قَوْله وَشَرْعه لِأُمَّتِهِ فَيَجِب اِمْتِثَاله. وَعَائِشَة تُخْبِر عَنْ نَفْي مُسْتَنِد إِلَى رُؤْيَتهَا وَهِيَ إِنَّمَا رَأَتْ أَنَّهُ لَا يَصِير بِذَلِكَ مُحْرِمًا , يَحْرُم عَلَيْهِ مَا يَحْرُم عَلَى الْمُحْرِم. وَلَمْ تُخْبِر عَنْ قَوْله: إِنَّهُ لَا يَحْرُم عَلَى أَحَدكُمْ بِذَلِكَ شَيْء. وَهَذَا لَا يُعَارِض صَرِيح لَفْظه. وَأَمَّا رَدّ الْحَدِيث بِالْقِيَاسِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلَّا أَنَّهُ قِيَاس فَاسِد مُصَادِم لِلنَّصِّ لَكَفَى ذَلِكَ فِي رَدّ الْقِيَاس وَمَعْلُوم أَنَّ رَدّ الْقِيَاس بِصَرِيحِ السُّنَّة أَوْلَى مِنْ رَدّ السُّنَّة بِالْقِيَاسِ , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق. كَيْف؟ وَأَنَّ تَحْرِيم النِّسَاء وَالطِّيب وَاللِّبَاس أَمْر يَخْتَصّ بِالْإِحْرَامِ , لَا يَتَعَلَّق بِالضَّحِيَّةِ , وَأَمَّا تَقْلِيم الظُّفْر وَأَخْذ الشَّعْر فَإِنَّهُ مِنْ تَمَام التَّعَبُّد بِالْأُضْحِيَّةِ .. )) (23).
قلت: وبذلك يكون القول الأول – وهو التحريم – هو القول الراجح لا سيما وصيغة النهي مؤكدة بالنون في رواية مسلم وغيرها كما تقدم بيانه.
*المراد بالنهي عن الأخذ من الشعر والظفر الوارد في حديث أم سلمة
قال النووي: ((قال أصحابنا: والمراد بالنهي عن أخذ الظفر والشعر النهي عن إزالة الظفر بقلْمٍ أو كَسْرٍ أو غيره.
والمنع من إزالة الشعر، بحلق أو تقصير أو نتف أو إحراق أو أخذ بنورة أو غير ذلك.
وسواء شعر الإبط والشارب والعانة والرأس، وغير ذلك من شعور بدنه.
قال إبراهيم المروزي وغيره من أصحابنا: حكم أجزاء البدن كلها حكم الشعر والظفر.
ودليله الرواية السابقة "فلا يمس من شعره وبشره شيئاً ")) (24).
وقال في"عون المعبود":: ((وَقَالَ بَعْضهمْ: أَرَادَ بِالشَّعْرِ شَعْر الرَّأْس وَبِالْبَشَرِ بَشَر [شَعْر] الْبَدَن , فَعَلَى هَذَا لَا يَدْخُل فِيهِ قَلْم الْأَظْفَار وَلَا يُكْرَه)) (25).
والصواب القول الأول، لأنه ورد في إحدى الروايات عند مسلم-كما تقدم-:
(فلا يأخذن شعراً ولا يقلمن ظفراً).
* الحكمة من النهي المذكور في الحديث
وأما الحكمة في النهي عن الأخذ من الشعر والأظفار في حق من أراد الأضحية فهي:
قال الإمام النووي -رحمه الله-:
((قال أصحابنا: والحكمة في النهي أن يبقى كامل الأجزاء ليعتق من النار)) (26).
وقال العلامة ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ:
((والحكمة في هذا النهي ـ والله أعلم ـ أنه لما كان المضحي مشاركاً للمحرم في بعض أعمال النسك،وهو التقرب إلى الله بذبح القربان كان من الحكمة أن يعطى بعض أحكامه،وقد قال الله في المحرمين: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: من الآية196]
وقيل: الحكمة أن يبقى المضحي كامل الأجزاء للعتق من النار، ولعل قائل ذلك استند إلى ما ورد:"أن الله يعتق من النار بكل عضو من الأضحية عضواً من المضحي "،لكن هذا الحديث قال ابن الصلاح: غير معروف ولم نجد له سنداً يثبت به (27)،ثم هو منقوض بما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
¥