أما الدليل الخامس: فهو لا يخلو من قوة ووجاهة، ولكنه قد يصدق على بعض الحالات، وأما في حالات أخرى فيصعب قبوله، فمثلاً المحدث الذي له طلاب كثر ملازمون له فمن أين يمكن لراو صدوق سمع منه عدة مجالس أن يتفرد عن أولئك الرواة بحديث؟!
ثم هل أحاديث الأحكام المرفوعة والأحاديث الأصول يمكن إخفاؤها عن الأقران؟!
إنما يصدق ذلك على أحاديث غير مرفوعة أو على أحاديث في الفضائل والرقائق ونحو ذلك. ويصدق كذلك على مشايخ تكون شهرتهم غير واسعة أو ليسوا بمعروفين جداً بحيث يسهل إخفاء أمرهم عن الأقران، ولأن هذه الأمور ممكنة فلم نهمل هذا الدليل مطلقاً بل نأخذ به. ولذا قلنا: إن التفرد المحتمل من الصدوق مقبول، ويكون كذلك إذا انطبق عليه ما ذكرنا آنفاً أنه يصدق في بعض الأمور.
وقبل الخوض في الأسباب التي دعتني لترجيح الرأي القائل بالتوقف في حديث الصدوق إذا كان تفرده لا يحتمل، يستحسن أن أعرض تحريراً بمحل النزاع يلخص ما سبق.
فأقول: إن تفرد الثقة الضابط مقبول مطلقاً عند أغلبية النقاد إلا في حالات ثلاث تقدم ذكرها في نصوص الإمام أحمد [2]، وهذا بعكس ما ذكره الحافظ ابن رجب، وقد ناقشته رحمه الله مع عِظم محبتي له وإجلالي لعلمه وفضله فيما تقدم أثناء الكلام على النصوص التطبيقية للإمامين يحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل.
وقبول تفرد الثقة الضابط هو الذي عليه العمل والمتسق مع منهج المحدثين العام، يقول الإمام الشافعي: (وكلاً قد رأيته استعمل الحديث المنفرد) يعني فقهاء الأمصار في المدينة والعراق وغيرهما.
ويقول ابن القيم في الرد على من لم يحتج بتفرد الثقة: (إن هذا القول لا يمكن أحداً من أهل العلم ولا من الأئمة، ولا من أتباعهم طَرْده، ولو طردوه لبطل كثير من أقوالهم وفتاويهم) [3]. وهذا صحيح بلا أدنى ريب.
ويقول الذهبي: (الثقة الحافظ إذا انفرد بأحاديث كان أرفع له، وأكمل لرتبته، وأدل على اعتنائه بعلم الأثر، وضبطه دون أقرانه لأشياء ما عرفوها، اللهم إلا أن يتبين غلطه ووهمه في الشيء فيعرف ذلك، فانظر أول شيء إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبار والصغار، ما فيهم أحد إلا وقد انفرد بسُنة، فيقال له: هذا الحديث لا يتابع عليه؟! وكذلك التابعون، كل واحد عنده ما ليس عند الآخر من العلم) [4].
ويقول أيضاً: (هكذا سائر الثقات ينفردون) [5].
وما قاله الذهبي صحيح، لأن الحفاظ المكثرين المعروفين بسعة مروياتهم تقع التفردات في أحاديثهم خاصة قبل انتشار التدوين انتشاراً عاماً، ومثالاً على ذلك قول الإمام علي بن المديني الذي يقول فيه: (نظرنا فإذا يحيى بن سعيد - الأنصاري - يروي عن سعيد بن المسيب ما ليس يروي أحد مثلها، ونظرنا فإذا الزهري يروي عن سعيد بن المسيب شيئاً لم يروه أحد، ونظرنا فإذا قتادة يروي عن سعيد بن المسيب شيئاً لم يروه أحد) [6].
وكل هؤلاء الثلاثة من كبار الحفاظ.
وقال الإمام أحمد: (حَدَّث عبدالرزاق عن معمر أحاديث لم يسمعها ابن المبارك، وحَدَّث ابن المبارك أيضاً بشيء لم يسمعه عبدالرزاق) [7].
وقال عبدالرزاق لعلي بن المديني حين ودعه: (إذا ورد حديث عني لا تعرفه فلا تنكر، فإنه ربما لم أحدثك به) [8].
وقال علي بن المديني: (ولا ينكر لرجلٍ سمع من رجلٍ ألفاً أو ألفين أن يجيء بحديث غريب) [9].
ولما أنكر الناس حديثاً لابن جريج عن الحسن البصري قال: (ما ينكرون عليَّ فيه؟! لزمت عطاء عشرين سنة ربما حدثني عنه الرجل بالشيء الذي لم أسمعه منه) [10].
فقبول تفرد الثقة الضابط هو المتعين لما تقدم.
وأما تفرد الصدوق ففيه اختلاف، فبعض النقاد كأبي حاتم الرازي فيما ظهر لي من تصرفاته أن الأصل عنده - غالباً - عدم الاحتجاج بتفرد الصدوق إلا إذا ترجح له أنه تفرد محتمل، وقد سبق أن نقلنا العديد من النصوص التي يقول فيها: (صدوق ولا يحتج به)، لا بأس به ولا يحتج به ... الخ.
النقاد - الذين وقفت على كلام لهم - يبدو أن الأصل عندهم قبول تفرد الصدوق إلا إذا ثبت أنه تفرد بما لا يحتمل لمثله.
وأما المتأخرون وبعض المتقدمين فيقبلون تفرد الصدوق مطلقاً إلا إذا خالف من هو أولى منه.
¥