فمسألة تفرد الصدوق هل يقبل أم يتوقف فيه خلافية حتى عند المتقدمين، وخير مثال على ذلك موقف بعض كبار النقاد من تفرد محمد بن إسحاق، فقد صرَّح الإمام أحمد بن حنبل [11] والإمام يحيى بن معين [12] والإمام أبو زرعة الرازي [13] بعدم الاحتجاج بما يتفرد به في الأحكام والفرائض، وأما علي بن المديني [14] والبخاري [15] فقبلوه.
ومثال آخر: قال ابن أبي حاتم: (سألت أبا زرعة عن حديث خالد بن سلمة عن البهي عن عروة عن عائشة قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه).
فقال: ليس بذاك، هو حديث لا يروى إلا من هذا الوجه.
فذكرتُ قول أبي زرعة لأبي رحمه الله فقال: الذي أرى أن يذكر الله على كل حال على الكنيف وغيره على هذا الحديث) [16].
فرده أبو زرعة للتفرد، وقبله أبو حاتم لأنه محتمل عنده، وقد صححه البخاري خارج صحيحه [17]، وصححه أيضاً الإمام مسلم [18]، فهذا مثال واضح في اختلاف المتقدمين.
وفيما سبق من نصوص القطان وقع خلاف من المتقدمين في ذلك كحديث: (عرفة كلها موقف)، وكذلك في نصوص الإمام أحمد كحديث صلاة الاستخارة استنكره أحمد وقبله البخاري إلى غير ذلك من أمثلة عديدة تدل أنها مسألة خلافية في جانبها التطبيقي على وجه الخصوص.
وأما الراجح في شأن تفرد الصدوق، فهو قبوله حين يكون محتملاً، والتوقف فيه حين يكون غير محتمل، ورده حين يخالف.
وهذا هو رأي الإمام الذهبي فقد قال في تعريف الشاذ: (هو ما خالف راويه الثقات، أو ما انفرد به من لا يحتمل حاله قبول تفرده) [19].
وقال في تعريف المنكر: (وهو ما انفرد الراوي الضعيف به، وقد يُعدُّ مُفرد الصدوق منكراً) [20].
وقال: (فمثل يحيى القطان يقال فيه: إمام، وحجة، وثبت وجِهْبذِ، وثقة ثقة، ثم ثقة حافظ، ثم ثقة متقن، ثم ثقة عارف، وحافظ صدوق، ونحو ذلك.
فهؤلاء الحفاظ الثقات، إذا انفرد الرجل منهم من التابعين فحديثه صحيح، وإن كان من الأتباع قيل: صحيح غريب، وإن كان من أصحاب الأتباع قيل: غريب فرد [21].
ويندر تفردهم، فتجد الإمام منهم عنده مائتا ألف حديث لا يكاد ينفرد بحديثين، ثلاثة.
ومن كان بعدهم فأين ما ينفرد به [22]؟ ما علمته، وقد يوجد!
ثم ننتقل إلى اليقظ الثقة المتوسط المعرفة والطلب، فهو الذي يُطلق عليه أنه ثقة، وهم جمهور رجال (الصحيحين)، فتابعيهم إذا انفرد بالمتن خُرِّج حديثه ذلك في (الصحاح).
وقد يتوقف كثير من النقاد في إطلاق الغرابة مع الصحة في حديث أتباع الثقات، وقد يوجد بعض ذلك في (الصحاح) دون بعض.
وقد يُسمي جماعة من الحفاظ الحديثَ الذي ينفرد به مثل هُشيم، وحفص بن غياث: منكراً.
فإن كان المنفرد من طبقة مشيخة الأئمة أطلقوا النكارة على ما انفرد به، مثل عثمان بن أبي شيبة، وأبي سلمة التبُوذكي وقالوا: منكر ...
وليس من حد الثقة أنه لا يغلط ولا يخطئ، فمن الذي يسلم من ذلك غير المعصوم الذي لا يُقر على خطأ) [23].
وفي هذا النص إيضاح جلي إلى أهمية طبقات المنفردين.
وقال الذهبي أيضاً: (فأما من وثق ومثل الإمام أحمد يتوقف فيه، ومثل أبي حاتم يقول: صالح الحديث، فلا نرقيه إلى رتبة الثقة، فتفرد مثل هذا يعد منكراً) [24].
وقال: (عبدالرزاق راوية الإسلام، وهو صدوق في نفسه، وحديثه محتج به في الصحاح، ولكن ما هو ممن إذا تفرد بشيء عُدَّ صحيحاً غريباً، بل إذا تفرد بشيء عُدَّ منكراً) [25].
وقال في تفرد أسامة بن زيد الليثي وابن إسحاق عن عمرو بن شعيب: (ففي النفس منه، والأولى أن لا يحتج به) [26]، مع أن حديثهما حسن عند المتأخرين.
وقال في محمد بن إسحاق: (فالذي يظهر أن ابن إسحاق حسن الحديث، صالح الحال، صدوق، وما انفرد به ففيه نكارة، فإن في حفظه شيئاً، وقد احتج به أئمة) [27]، وله رحمه الله نصوص أخرى مشابهة وتطبيقات لما حرره آنفاً [28].
وممن تابع الذهبي على بعض أقواله في تفرد الصدوق: العلامة المحقق عبدالرحمن المعلمي اليماني فقد ذكر كلامه في ابن إسحاق وارتضاه على أنه التحقيق، واحتج به في الحكم على تفرد لابن إسحاق بأنه منكر [29].
كما أنه ذكر (التفرد الذي لا يحتمل) بوصفه أحد القوادح في السند الموثق الرجال [30]، ورجح أن تفرد (صدوق يهم) لا يحتج به [31].
وترجيحنا لهذا الرأي للأمور التالية:
1 - قوة أدلته كما تقدم.
¥