2 - توسطه وبُعده عن الغلو، مع عدم إغفال موجبات الاحتياط المعتدل، فلا يساوي مفرد الصدوق بمفرد الثقة مطلقاً، ولا يساوى بما رواه الضعيف فلا يقبل من مروياته إلا ما اعتضد بعاضد، بل ينظر في تفرده بحسب القرائن، فإن كان محتملاً قُبِل ولو لم يعتضد، وإن كان غير محتمل توقف فيه ولو لم يخالف.
3 - لأنه مذهب كثير من كبار النقاد خاصة من جمع منهم بين الاعتدال في الجرح والتعديل والفقه كالإمام أحمد، فمذهبه في ذلك حري بالقبول؛ لأنه من المعتدلين في النقد ومن كبار الفقهاء أيضاً.
ومنهج الإمام أحمد في ذلك قائم على الانتقاء من حديث من يُحسن المتأخرون حديثهم، فمثلاً قال في عمرو بن شعيب: (أصحاب الحديث إذا شاؤوا احتجوا به، وإذا شاؤوا تركوه) [32].
وقد احتج ببعض حديثه الذي تفرد به [33]، ولم يحتج ببعضه [34].
ومع تصريحه بعدم الاحتجاج بتفرد ابن إسحاق إلا أنه - في رواية عنه - قَبل حديثاً قد تفرد به، وقال: (أذهب إليه ليس يدفعه شيء، وإن كان حديثاً واحداً) [35]، وقال: (لا أعلم شيئاً يخالفه) [36]. وقد احتج ببهز بن حكيم في حديث [37]، وتوقف عن ذلك في حديث آخر [38].
ومذهب الانتقاء هو منهج الإمام عبدالرحمن بن مهدي وهو من المعتدلين أيضاً، فقد حدثه تلميذه عمرو بن علي الفلاس بحديث فيه عبدالله بن عثمان بن خثيم -وحديثه حسن عند المتأخرين - فقال له: (أنت من هذا الضرب؟!) منكراً عليه، قال الفلاس: (وكان عبدالرحمن يحدثنا عن الرجل بالحديث، ولا يحدث بحديثه كله) [39].
وقال ابن مهدي أيضاً: (اثنان إذا كتبت حديثهما هكذا رأيت فيه، وإذا انتقيتها كانت حساناً: معمر وحماد بن سلمة).
وختاماً لابد من توضيح لمعنى (التفرد غير المحتمل).
متى يكون التفرد لا يحتمل؟
هناك أسباب عديدة وقرائن متنوعة تجعل التفرد من (الصدوق) ومن في حكمه غير محتمل، ومن أهم هذه الأمور على سبيل المثال لا الحصر:
1 - إذا تفرد (الصدوق) بحديث عن حافظ له تلامذة كثر، وبعضهم مختص به وملازم له، فحينها يكون التفرد غالباً لا يحتمل.
قال الإمام مسلم: (فأما من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره، أو لمثل هشام بن عروة، وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك. قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثر، فيروي عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث، مما لا يعرفه أحد من أصحابهما وليس ممن قد شاركهم في الصحيح مما عندهم، فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس) [40].
وقد طبق مسلم ذلك كما في قوله: (فأما رواية المعافى بن عمران عن أفلح عن القاسم عن عائشة فليس بمستفيض عن المعافى، إنما رواه هشام بن بَهْرام [41] وهو شيخ من الشيوخ، ولا يقر الحديث بمثله إذا تفرد) [42].
وقد تقدم في أدلة الرأي الثاني بعض النصوص المؤيدة لما هنا.
2 - إذا تفرد الصدوق بأصل أو حكم من الأحكام المهمة ولم يشاركه فيه أحد؛ فمن الوجاهة أن نتساءل أين كان حفاظ الأمة المعاصرين له عن هذا الحديث؟!
وقد تقدم قول شعبة: (حكم من الأحكام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشاركه أحد) [43]، وكذا قول أبي حاتم بنحوه [44]، وقوله: (وهذا أصل من الأصول لم يُتابع عليه ربيعة) [45].
وقال الجوزجاني في حديث تفرد به عاصم بن ضمرة عن (صفة تطوع رسول الله صلى الله عليه وسلم):
(فيا لعباد الله! أما كان ينبغي لأحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه يحكي هذه الركعات إذ هم معه في دهرهم، والحكاية عن عائشة رضي الله عنها في الاثنتي عشرة ركعة من السُنة، وابن عمر عشر ركعات، والعامة من الأمة أو من شاء الله قد عرفوا ركعات السُنة الاثنتي عشرة، منها بالليل، ومنها بالنهار.
فإن قال قائل: كم من حديث لم يروه إلا واحد؟
قيل: صدقتَ كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس فيتكلم بالكلمة من الحكمة لعله لا يعود لها آخر دهره فيحفظها عنه رجل، وهذه ركعات كما قال عاصم كان يداوم عليها فلا يشتبهان) [46].
وقد رد الحافظ ابن حجر عليه فقال: (ولا إنكار على عاصم فيما روى، هذه عائشة تقول لسائلها عن شيء من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم: (سل علياً)، فليس بعجب أن يروي الصحابي شيئاً يرويه غيره من الصحابة بخلافه، ولاسيما التطوع) [47].
¥