والوجه الخامس: أن العرب الخلص الذين عاش النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، وبث دعوته بين ظهرانيهم، لو علموا في فصاحته ما يعاب، أو ما يخالف أصول البيان والإعراب، لتعلقوا به، وبثوا ذلك في مجالسهم، واتخذوه سبة يتندرون بها في نواديهم؛ ولردوا عليه دعوته بسبب من ذلك، لأنهم من العرب الأقحاح الذين لا يستجيبون إلا لأفصحهم لسانا، وأظهرهم بيانا) [22] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn22)(.
فلما لم يوجد من ذلك شيء، ولو أقل من القليل، مع توفر الداعي، وقوة المقتضي، علمنا أنه صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب قاطبة، لا يخالج النفس في ذلك أدنى شك أو شبهة.
والوجه السادس: وهو الذي ينبغي أن يكون قبل الوجوه السابقة كلها، وينبغي أن يكون بعدها كذلك. وهي بينة إثبات أَكِل أمر الشهادة بها للذوق العربي السليم.
إن القارئ لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم يجد من حلاوتها في نفسه، ما تصغر معه كل حلاوة أدركها طول عمره؛ ومِن نورها في قلبه، ما تنشرح له أرجاء صدره.
ومهما زدت من القراءة، وأكثرت من النظر في تلك الأحاديث، فإنك لن تجد في ذهنك ذرة من الملل أو السآمة، وإنما هو نور آخذ بحجزة نور، وضياء يتلوه ضياء.
ولن تجد - في غير القرآن والحديث - هذه الخاصية العجيبة في شيء من الكلام، كائنا من كان مبدعه.
سر البلاغة النبوية:
وإذ قد برهنا على بلوغ الكلام النبوي أعلى مراتب الفصاحة، فلنا أن نسأل عن سر هذه البلاغة النبوية؟
والحق، أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اجتمعت فيه خلال كثيرة، ثقّفت لسانه، وزينت بيانه، وجعلته تاج الفصحاء، وسيد البلغاء.
·وأول هذه الخلال نسبه الكريم. فإن قبيلتَه قريشا كانوا أفصح العرب لسانا، وأرقهم لفظا، وأبعدهم عن تلك اللهجات الرديئة التي وصمت غيرهم من قبائل العرب) [23] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn23)(. وقد نشأ النبي عليه الصلاة والسلام في بني سعد بن بكر) [24] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn24)(، وهم من أكرم العرب وأفصحهم، مع كونهم أهل بداوة رقيقة الحواشي، ليس فيها من جلافة الأعراب ما يكدر صفوها.
وقد كانت حليمة السعدية من أوسطهم؛ والرضاع مؤثر في الطباع، كما قد قيل) [25] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn25)(. ولم يختلط عليه الصلاة والسلام طول حياته الشريفة بقوم خارجين عن حدود رفعة البيان.
وإذ قد اجتمع له صلى الله عليه وسلم أفضل ما ينشأ في كنفه فصيح قط، فلا جرم أن اعتلى سماك البيان اللغوي، وأتى منه بأفضل ما يطيقه إنسان.
·وثانيها قلبه النقي التقي، المتجذر في الصفاء، والمتغلغل في الطهر. وهو قلب متصل بالله عز وجل، ينبض بأشرف المعاني، وأزكى الفكَر، فلا يزال يبعثها أرسالا بهية، إلى ذاك اللسان الفصيح، ليترجمها كلاما منمقا بديعا.
·وثالثها عقل ذكي متوقد، وذهن حاد متوهج، وبصيرة نفاذة إلى بواطن الأمور. فلا يمر على خاطره إلا معنى جليل قد امتلك ناصية الصحة، وترفع عن سفساف الأفكار.
·ورابعها لسان صقلته روائع البيان القرآني، فصار ذربا بأنصع الألفاظ، وأرشق التراكيب، وأحكم المعاني. وأعظِم بلسان يُدارس جبريل عليه السلام عجائب آيات التنزيل، ونفائس القرآن الكريم.
·والخامس تأييد إلهي محكم، يعصمه من العيوب التي لا يخلو من الوقوع فيها غيره من الفصحاء. فتجد كلامه متناسقا في سموه، متوازيا في عليائه، لا ينزل في لحظة ما عن أعالي رتب البيان. وهذا لا يكون إلا بمدد من الوحي.
ولذلك صح أن أزعم بثقة وثبات، أن البلاغة النبوية – رغم قصورها عن درجة الإعجاز القرآني - ليست متمحضة في الإنسانية، بل هي قبس من الوحي الإلهي.
[أصول البلاغة النبوية]
ذكرت فيما سبق من الكلام، مباحث نافعة، قاربتُ فيها شيئا من التأصيل المجمل لفن البلاغة النبوية، وذلك بقدر ما تتسع له صفحات هذا المقال المختصر.
وأنا الآن ساردٌ لك، جُملا من الأصول والأركان، يقوم عليها صرح البلاغة النبوية. ولست أزعم لنفسي أنني محيط بتلك الأصول إحصاء وعَدا، ولا أنني مستوف بحث ما سأذكره منها. ولكن حسبي من الدلالة ما أبان أوائل الطرُق، ويكفيني من در القلادة ما أحاط بالعنق.
1 - القصد والإيجاز:
ومعناه أن تجتمع المعاني الكثيرة المقصودة من الكلام في الألفاظ القليلة، التي تقل عن العدد المتعارف عليه بين الناس في عادات خطابهم.
¥