وهو من معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (بعثت بجوامع الكلم)، وقد سبق إيراده.
وقد سلم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم – بهذا القصد والإيجاز – من الانتشار المفضي إلى العي والخطل، ومن الإطناب المؤدي بالسامع إلى السآمة والملل.
وإنك مهما قلّبت وجوه النظر في كلام البلغاء في تصاريف كلامهم، فلن تجد فيهم من يسلم من اللجإ إلى فنون من الإطناب والإطالة، وتشقيق الكلام، يستعين بها على بسط ما يبثه من المعنى.
ولن تجد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك شيئا. وإنما هو القصد الذي يحير الألباب، ويبهر العقول.
وتأمل قوله عليه الصلاة والسلام، على سبيل المثال: (إنما الأعمال بالنيات)) [26] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn26)(. ستجد في هذه الكلمات الثلاثة المختصرة في هذا التركيب اللطيف، ألوانا من العلوم، وأصنافا من المعاني) [27] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn27)(، يحار أهل الفهوم في استنباطها.
ومثله في الوجازة والجمع، أحاديث أخرى كثيرة، منها قوله عليه الصلاة والسلام:
-الدين النصيحة) [28] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn28)(.
- الحلال بين، والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات.
-إنما الصبر عند الصدمة الأولى.
-المرء مع من أحب.
-الناس معادن.
-الظلم ظلمات يوم القيامة) [29] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn29)(.
وغيرها من مثل هذه الأحاديث القصار التي تخرج مخرج الحكمة الشاردة، والمثل السائر، والقاعدة العامة الشاملة لما لا يحصى من المفردات، كثير جدا في دواوين السنة النبوية) [30] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn30)(.
2- استيفاء المعنى:
وإذا كان الإيجاز مطلبا بلاغيا ساميا، فإن تقصده كثيرا ما يفضي بأرباب الأدب والفصاحة، إلى لون من النقص والاضطراب، يخرج به الكلام سقيما مخَدجا.
وأما في كلام سيد الفصحاء – صلى الله عليه وسلم – فإن الإيجاز ليس مخلا بالمعنى، وإنما هو ضرب من البراعة اللفظية، يكتمل رُواؤه باستيفاء المعنى المراد، حتى يخرج الكلام حسن التركيب والمظهر، تام المضمون والمخبر.
وهذا أصل عظيم جدا، هو لب البيان النبوي، المعصوم من التقصير في الهداية والإرشاد. ولولاه لما كانت السنة النبوية الشريفة بهذه المثابة في تقرير الشرائع، وتحرير القواعد، ووضع الأصول والضوابط.
ومن المثال على ذلك:
-قول النبي صلى الله عليه وسلم في تعريف الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) [31] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn31)(. وأنت لو شئت أن تبدل في هذه الكلمات المتناسقة، بزيادة أو نقص، لتكميل المعنى أو بسطه، لما تأتى لك ذلك إلا بحيث تخرج من حدود البيان العربي البليغ، إلى نوع من الثرثرة الممقوتة. فالمعنى – كما ترى – كامل منسجم، واللفظ ناصع منورق، مستو في فصاحته، لا عوج فيه ولا أمت.
-وقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) [32] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn32)(: تأصيل عظيم لباب من أبواب الشرع جليل. ولست ترى فيه – على وجازته وحذف فضوله – نقصا في المعنى المقصود.
وفي الأدعية المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمثلة على هذا الأصل، الشيء الكثير. وأنا مكتف – على رغبة مني في البسط جامحة – باستعاذته صلى الله عليه وسلم من العجز والكسل، والجبن والهرم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات) [33] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn33)(.
قال ابن القيم:
(فجمع هذا الحديث الشريف في استعاذته صلى الله عليه وسلم أصول الشر وفروعه ومباديه وغاياته وموارده ومصادره وهو مشتمل على ثمان خصال كل خصلتين منها قرينتان)) [34] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn34)(.
وقس على هذا الدعاء غيره، فتدبره وأنعم النظر فيه، تر عجبا.
3 - نصاعة الألفاظ:
ألفاظُ الحديث النبوي واضحة لكل أحد، خالصة من كل بشاعة، مبرأة من كل عيب وهجنة. اجتمع فيها ما أوردناه آنفا من شروط الفصاحة في المفرد، وزادت على ذلك، حتى استوت على عرش البيان، وتبوأت من البلاغة المحل الأسمى.
¥