ولا يشكل على ما قررنا، بعض ما يورده أهل الغريب من الألفاظ الوحشية المستعصية على الفهم، وذلك لأن كثيرا من هذه الألفاظ لم تصح نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما وردت في الأحاديث المرفوعة المروية في كتب السنة بالإسناد، فتتبعها أهل الغريب بالشرح البيان، ولم يتكلفوا عناء التثبت من صحتها، إذ لم يكن ذلك من مرامهم.
وقسم آخر من هذه الألفاظ الصعبة، تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بها، بسبب من اختلاف أحوال المخاطبين. فقد كان منهم أعراب موغلون في البداوة، وأصحاب منعمون في رقة الحضارة، وكان منهم ملوك وسوقة، وصغار وكبار، ونساء ورجال. فخاطب كل طائفة من هؤلاء بما يوافق حاله.
وهل البلاغة إلا مراعاة حال المخاطَب، لتحصل أعلى درجات الإفهام؟
لكنه – صلى الله عليه وسلم – لم يخرج قط عن انتقاء الحر من اللفظ، الذي يتقبله السمع، ويستسيغه الذوق.
وتأمل في هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم)) [35] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn35)(.
ألست تجد وقع هذه الألفاظ وهي تدغدغ سمعك، وتلامس شغاف قلبك، مع إيغالها برفق في وضوح المعنى، وسلاسة التركيب؟.
4 - موافقة مراد المخاطب:
ويسوقنا الكلام في الأصل السابق سوقا حثيثا، فيسلمنا إلى عرض أصل آخر عظيم الخطر، وهو أن الكلام النبوي كان يتأقلم مع أحوال المخاطبين به، مع الاحتفاظ بالأصول الثابتة الأخرى.
فهو إذ يخاطب ملكا من ملوك الأرض، تجده يقول: (سلام على من اتبع الهدى. أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام: أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين)) [36] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn36)(.
وحين يخاطب بعض أطفال المسلمين يقول: (يا أبا عمير ما فعل النغير)) [37] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn37)(.
فتدبر ما في الحديث الأول من الفخامة والجزالة، حتى لكأن كلماته صواعق منزلة، تقرع رأس عظيم الروم؛ وما في ألفاظ الحديث الثاني من الرقة والحنان، حتى لكأنها تطرب فؤادك بعذوبتها.
هذا، وقد ذكر بعض الأفاضل في هذا الباب، كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لوائل بن حجر: (إلى الأقيال العباهلة، والأرواع المشابيب، الحديث)، وكتابه إلى همدان: (إن لكم فراعها ووهاطها وعزازها، الحديث)، وقوله لبني نهد: (اللهم بارك لهم في محضها ومخضها ومذقها، الحديث)، ونحو ذلك.
وقد ضربت صفحا عن ذكر هذه الكتب والأحاديث، لأنها لا تصح من جهة الإسناد) [38] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn38)(.
5- عدم التكلف:
وهذا الأصل متفرع عن مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم بكلامه البيان للنص القرآني، والإرشاد إلى خيري الدنيا والآخرة. وهذان الأمران لا يجتمعان مع التشدق والتفاصح.
ولذلك لا يوجد في كلامه عليه الصلاة والسلام شيء من الصناعة اللفظية المتكلفة، وإنما كان يتكلم عن روية وسلاسة طبع.
وحتى ما جاء في حديثه من السجع، فهو سجع بالغ السلاسة والعذوبة، ليس فيه خشونة الصناعة، بل ينسج على منوال الفواصل القرآنية، ويهتدي بضيائها، مع الفرق بين الكلامين كما سبق بيانه.
6 - الخلوص من العيوب البلاغية:
كلامه عليه الصلاة والسلام مبرأ من الهنات البيانية التي لا يكاد يسلم منها متكلم. وإنك مهما استطعت، فلن تستطيع أن تجد في كلامه هجنة أو ضعفا؛ ومهما قدرت، فلن تقدر على أن تستخرج منه ركاكة أو إسفافا.
وقد ترفّع كلام النبي صلى الله عليه وسلم عن جفاء البداوة وغلظتها، وعن ضعف الحضارة وركاكتها. مع كونه أمسك من الأولى بأزمة جزالتها وفصاحتها، وغشي من الثانية بسرابيل رقتها وسجاحتها.
فجاء كلاما جزلا في رقة، ومتينا في عذوبة، وقويا في لطف وبهاء.
7 - السبق إلى بعض التراكيب:
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم من البيان والفصاحة بهذا المحل الأسمى، الذي وصفته لك فيما سبق من الكلام، فليس بمستبعد أن يسبق أرباب البلاغة إلى تعبيرات لم يجارَ فيها، ولا تهيأ لغيره أن يحاكيها.
فمما تفرد بالسبق إليه:
-قوله صلى الله عليه وسلم: (حمي الوطيس)) [39] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn39)(، أي: اشتدت الحرب.
-وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)) [40] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn40)(.
¥