وهؤلاء الثلاثة ممن مارس القضاء، وخبر الأمر عمليا، واطلع على الأعاجيب في شهادات الشهود، وقد أخذ بهذا الرأي عدد من المحاكم الشرعية في الدول الإسلامية كمصر والأردن، ويقول بهذا الرأي عدد من العلماء اليوم، وذلك محاولة للتقريب بين رأي من يأخذ بالحساب مطلقا، ورأي من يرفضه مطلقا.
ولا شك أن هذا الرأي أقرب إلى الصواب من رأي من يرفض الحساب مطلقا، ويقبل شهادة من يشهد برؤية الهلال ولو قبل ولادته (الاقتران) بيوم كامل.
وميزة هذا الرأي ما يلي:
1. أنه يحاول التوفيق بين الرأيين السابقين.
2. أنه في الحقيقة درجة للوصول إلى الأخذ بالحساب في الإثبات والنفي.
3. أنه يعالج المشكلة كما يعيشها العالم الإسلامي اليوم، فالمشكلة الرئيسية في عصرنا ليست في عدم رؤية الهلال لغيم أو غيره مع أن الحساب يثبت وجوده، ولكن المشكلة التي تتكرر في أكثر السنين هي الشهادة برؤية الهلال قبل ولادته (الاقتران) أو بعد الاقتران ولكن أثناء المحاق، أي حيث لا تمكن رؤيته.
ولكننا لو دققنا في هذا الرأي لم نجد له ما يؤيده لا شرعيا ولا علميا، فالنصوص الشرعية لم تفرق بين النفي والإثبات في الأخذ بالحساب والتقدير، وبخاصة حديث (فإن غم عليكم فاقدروا له) ففي الحديث أمر بالتقدير لإثبات الشهر، وليس لنفي الشهادة، وأما علميا فلا فرق في دقة الحساب وقطعيته بين حساب إثبات دخول الشهر، وحساب نفي دخوله.
وهكذا فإن الراجح في عصرنا أن اعتماد التقدير والحساب يكون للنفي والإثبات سواء بسواء، وذلك لما يلي:
1. لأن الحساب هو الأصل الذي لم يكن متيسرا في العصر النبوي فجاء الأمر بالصوم إذا رئي الهلال بديلا عنه، كما دل على ذلك حديث (إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلا نَحْسُبُ).
2. ولأن الشهادة بالرؤية غالبا ما تكون ظنية وكذلك الإكمال، بينما الحساب في عصرنا قطعي، وكلها وسائل فنأخذ في كل عصر بأقوى وسيلة.
3. وتطبيقا لحديث (فإن غم عليكم فاقدروا له).
ونكون بذلك قد أخذنا بالنصوص الشرعية كلها، وفهمناها بطريقة متكاملة، ونكون في الوقت نفسه قد أخذنا بالحقائق العلمية الحديثة ولم نهملها، ومن أشهر من قال بهذا الرأي قديما مطرف بن عبد الله من كبار التابعين في القرن الهجري الأول، وأبو العباس بن سريج من كبار الفقهاء في القرن الثالث الهجري، وابن قتيبة الدينوري من كبار علماء القرن الهجري الثالث، والسبكي من كبار علماء القرن الثامن الهجري إن كان الحساب قطعيا، حيث يعلق على حديث (فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) فيقول: وقد يقال إنه يرد على القائلين بجواز الصوم أو وجوبه إذا دل الحساب على رؤيته، ووجه الاعتذار عنه أنه لما دل على الصوم بإكمال ثلاثين من غير رؤية فهمنا المعنى وهو طلوع الهلال وإمكان رؤيته، وهما حاصلان بالهلال في ليلة الثلاثين في بعض الأوقات.
ويقول في مكان آخر: وإذا غم الهلال علينا في مثل ذلك فيقوى اعتماد الحساب والحكم بالهلال كما قاله كثير من الأصحاب.
ومن أشهر من قال به في عصرنا الشيخ أحمد شاكر حيث قال: فإذا خرجت الأمة عن أميتها وصارت تكتب وتحسب … وجب أن يرجعوا إلى اليقين الثابت، وأن يأخذوا في إثبات الأهلة بالحساب وحده.
والشيخ مصطفى الزرقا الذي تبنى هذا الرأي في مجمع الفقه الإسلامي في مكة المكرمة، ولكن هذا الرأي لم يحصل على أكثرية الأصوات.
والدكتور يوسف القرضاوي حيث قال: إن الأخذ بالحساب القطعي اليوم وسيلة لإثبات الشهور يجب أن يقبل من باب قياس الأولى، بمعنى أن السنة التي شرعت لنا الأخذ بوسيلة أدنى لما يحيط بها من الشك والاحتمال - وهي الرؤية - لا ترفض وسيلة أعلى وأكمل وأوفى بتحقيق المقصود.
لمحة فلكية
يدور القمر حول الأرض في مدار إهليلجي، ولذلك فإنه يقترب أحيانا من الأرض فيكون في الحضيض، ويبتعد أحيانا أخرى فيكون في الأوج، وقد جعل الله سبحانه له قانونا، فكلما اقترب زادت سرعته لئلا ينجذب إلى الأرض ويصطدم بها، وكلما ابتعد قلت سرعته لكيلا ينفلت من الجاذبية ويخرج عن مساره، ويتم كل هذا بنظام دقيق وضعه الله ببالغ حكمته، ويعرف هذا القانون بقانون كبلر، وهو اسم العالم الذي اكتشفه.
¥