والقول الثاني: أنه لا فرق بين البنيان وبين الصحراء وأنه لا دليل على التفريق بين البنيان والصحراء، وكون النبي e فعله في البنيان هذا اتفاقاً وفَهْم ابن عمر رضي الله عنهما خالفه أبو أيوب رضي الله عنه قال: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض بُنيت قبل القبلة فننحرف عنها ونستغفر الله.
فأبو أيوب رضي الله عنه جعل النهي على عمومه، ومن جهة المعنى لا فرق بين البنيان وبين غيره فإن من يقضي حاجته في الصحراء لا بد أن يكون بينه وبين القبلة أشياء كثيرة من جبال وبيوت ونحو ذلك، فلا فرق بين أن تكون قريبة أو بعيدة.
وأقرب ما يقال في هذا: أن الاستقبال مكروه كراهة تنزيه، وأن الصارف للنهي من التحريم إلى الكراهة هو حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه رأى النبي e مستقبلاً بيت المقدس مستدبراً الكعبة، فهذا فعل منه e فيكون صارفاً للنهي من التحريم إلى الكراهة.
وكذلك ما جاء عند أبي داود من حديث جابر رضي الله عنه قال: رأيت النبي e قبل أن يقبض بعام يستقبلها. وهذا الحديث صحيح، وهو إن كان من رواية محمد ابن إسحاق، ولكنه صرح بالتحديث ومحمد بن إسحاق ثقة وإذا صرح بالتحديث فحديثه صحيح، فالحديث صحيح وهو صارف للنهي من التحريم إلى الكراهة، وهذا هو الراجح لأنه ليس هناك دليل واضح في التفريق بين البنيان وبين الصحراء، فيكون الجمع بين الأحاديث على هذا الوجه أن النهي للكراهة والصارف هو فعله e .
وهذا هو مذهب جماعة من السلف منهم عروة بن الزبير وربيعة شيخ مالك وابن حزم وغيرهم.
مسألة: هل يحرم استقبال بيت المقدس حال قضاء الحاجة؟.
الجواب: لا يحرم، وما رواه أبو داود من النهي عن استقبال القبلتين ببول أو غائط. فهو حديث ضعيف فيه راوٍ مجهول ذكره الحافظ في الفتح.
وفي حديث سلمان رضي الله عنه لما قال له اليهود: علمكم نبيكم كل شيء حتى الخِراءة. قال: أجل نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول أو أن نستنجي باليمين أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار أو أن نستنجي برجيع أو بعظم. هذا الحديث ذكر فيه سلمان رضي الله عنه هذه الآداب التي علمهم النبي e وجاء في السنن قال e (( إنما أنا لكم مثل الوالد أعلمكم)) فكان النبي e يعلمهم كل شيء حتى ما يتعلق بقضاء الحاجة.
وقول سلمان رضي الله عنه: وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، هذا يدل على أنه لا يجوز للإنسان الاستنجاء بحجرين أو واحد، إلا إذا كان الحجر له ثلاث شعب فإنه لا حرج أن يمسح بحجر واحد بكل شعبة مسحة، والمراد هو المسحات لا ذات الحجر، فالمراد بهذا أن يمسح ثلاث مسحات، لأن الغالب أن الخارج لا يزول إلا بالثلاث فما فوق فالاقتصار على ما دون الثلاث لا يجوز.
وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه في صحيح البخاري لما أتى النبي e الغائط قال ((ابغني أحجاراً)) يعني ائتي بأحجار. قال ابن مسعود رضي الله عنه: فأتيته بحجرين فالتمست ثالثاً فلم أجد، فأتيته بروثه فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال ((هذا ركس))، وفي رواية ابن خزيمة أنها روثة حمار، وعند ابن خزيمة أيضاً قال ((هذا رجس)) يعني نجس.
فمنهم من قال: إن هذا الحديث يدل على أنه لا يلزم الثلاثة لأنه أخذ الحجرين وألقى الثالث وقال ((هذا ركس)).
لكن الجواب من وجهين: الوجه الأول: أنه جاء عند الإمام أحمد، وقال الحافظ: رواته ثقات أنه قال ((أبغني ثالثاً)).
الوجه الثاني: أنه على فرض أن هذه الرواية لا تثبت فإنه لا يدل على الاقتصار على أقل من ثلاث لأن هذه قضية عين محتملة، فقد يكون النبي e مسح بشيء آخر أو التمس حجراً ثالثاً فقضايا الأعيان محتملة فلا يعارض بها النصوص المحكمة، وهذه قاعدة مفيدة لطالب العلم إذا جاء نص محكم في مسالة وجاءت قضية عين فإنه لا يعارض بها النص المحكم لأن هذه القضية يدخلها الاحتمالات، أما النص فهو محكم لا يدخله الاحتمال، كما في حديث سلمان رضي الله عنه قال: ونهانا أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار. هذا نص محكم لا يدخله الاحتمال، أما حديث ابن مسعود رضي الله عنه فإنها قضية عين يدخلها الاحتمال.
105 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: إن النبي e قال ((من أتى الغائط فليستتر)) رواه أبو داود.
الشرح:
¥