" كتابُ اللهِ لو نزعت منه لفظةٌ، ثُمَّ أُديرَ لسان العربِ فِي أن يوجد أحسن منها لم يوجد "
بل لا يوجد مثلها بناء على منع الترادف في اللغة وهو-في نظري- القول الراجح. وليس هذا محل تفصيله لكن حسبنا أن نستدل بأن الكلمة تحمل نوعين من الدلالة:
-الدلالة الحرفية المعجمية.
-الدلالات الإيحائية.
فلو قدر لكلمتين الاتفاق في الأولى فمن المستبعد جدا أن يشتركا في الثانية بسبب اختلاف الجرس وما يعلق بالمعنى من ظلال عبر التاريخ الاستعمالي للكلمة ويمكن تشبيه الكلمة هنا بالنحلة فهي في تنقلها بين الزهور يعلق بجسمها شيء بعد شيء ..... فالنحلتان المتشابهتان عند الغدوة تختلفان عند الروحة وكذلك الكلمتان المترادفتان ظاهرا.
مثلا كلمة رزق لا مرادف لها بل أنا زعيم باستحالة ترجمة هذه الكلمة إلى أي لغة من لغات الناس لأن الكلمة العربية لها من الظلال الروحية ومن المعاني الحدسية ما لا يمكن أن يوجد في ثقافة أخرى.
فعل "تولى" مثلا –في الآية التي نتدبرها-لا مرادف له يفي بكل الدلالات الإيحائية .....
فهو دال على الحركة في اتجاه معين مع الدلالة على موقف فكري ونفسي. فانصرف –مثلا- إن حملت المعنى الأول لم تحمل المعنى الثاني.
-2 -
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى.
الظاهر أن الآية إخبار عن فرعون، وترتيب للافعال الصادرة عنه:
التولي والجمع والمجيء.
لكن التأمل الدقيق للفعلين: تولى، و أتى. يكشف أن الآية حملت إخبارا عن موسى -عليه السلام- أيضا. فنقرأ في المشهد الواحد مشهدين في الحقيقة .... وهذا من إيجاز القرآن المعجز.
تولى: فعل يدل على حركة متجهة في الفضاء .... ويدل أيضا على وجود شخص (أو شيء) في الخلف .... هو المرجع الذي يحدد فعل "تولى".
أتى: فعل يدل على حركة متجهة في الفضاء ... لكنها حركة مقابلة للتولي: فالنقطة المرجعية هنا توجد أمام وليس خلف ...
التولي انفصال وذهاب بعيدا عن المتولى عنه ... والإتيان عكسه.
كل هذا واضح ....... ولكن ماذا قالت الآية عن موسى؟
الآية تشعرنا أن موسى عليه السلام لم يغادر مكانه.
(هذا الشعور عندي ذاتي قريب من الحدس قد لا نستطيع التعبير عنه أو إثباته بطريق قوي وقد لا يوافقنا فيه غيرنا .... ولكننا نتدبر كما أمرنا .... والعلم عند الله تعالى)
ومصدر هذا الشعور أمران:
-السرد السريع لما قام به فرعون:تولى وجمع ثم أتى. فكأنه لم يتخلل بين الفعلين زمن طويل. فلا يكاد يتوهم الذهن أن موسى عليه السلام قد فعل شيئا ما بين انصراف فرعون ورجوعه.
-الأمر الآخر هو أن المتكلم قبل هذه الآية هو موسى عليه السلام الذي حدد الموعد:
قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ?59?
والمتكلم بعد الآية هو موسىعليه السلام أيضا:
قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى?61?
فكأن موسى عليه السلام يستأنف كلاما قريبا .... أو كأن الآية (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى) اعتراض في حوار ... فلا نجد إشارة إلى انصراف لموسى ولا لمجيء له ....
والمعنى في ذلك –والله أعلم-أن صاحب الحق ثابت في مكانه لا يحتاج إلى مناورة ولا إلى ذهاب ومجيء ولا إلى استعانة بالغير .... فكأن لسان حال موسى - عليه السلام - الواثق في وعد الله يقول: أنا هنا لا أحيد فاذهب حيث شئت واستعن بمن شئت وجئني متى شئت.
-3 -
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى ?60?
الأفعال المتلاحقة تشعر بالسرعة لكنها مع ذلك بينت البرنامج الفرعوني كله ...... فانظر مثلا إلى قوة الجملة الوسطى: جمع كيده ...
فعل "جمع" يختزل أوقاتا وأحداثا: إعلانات، وسفراء، ومبعوثين،وحركة في طول البلاد وعرضها، وعروضا وإغراءات ووعودا: باختصار:حالة استنفار قصوى.
والمفعول به:كيد ... يختزل من جهته الأفعال السحرية والرغبة في إزالة الحق بالباطل فضلا عن الإشارة إلى غموض عالم السحر والسحرة- فلا يقال الكيد إلا لما فيه خفاء-
فانظر إلى هذه الكلمة" كيد "كيف دلت على فكر وأهله كما دلت على نوايا وأصحابها ودلت على خطط وتراتيبها.
ثم انظر إلى الرابطين لترى أسلوب القرآن المعجز:
¥