ويقول سبحانَهُ وتعالى: "ولبثوا في كهفِهم ثلاثَ مائةٍ سنينَ وازداوا تسعاً".
حسناً، فمدةُ النومِ تَزدادُ عَنْ ثلاثةٍ مِنَ القرونِ بتسعٍ، فأيُّ تسعٍ هيَ؟ .. هيَ إمَّا تسعٌ آحادٌ، وإمَّا تسعٌ منَ العشراتِ.
أرى أنَّ نَوْمَ الفتيةِ هوَ أربعةُ قرونٍ الاّ عشرَ سنينَ شمسيّةً؛ فالآياتُ تحدثتْ عَنْ تزاورِ الشمسِ وقَرْضِها. حسناً، إذا كانتِ الثلاثُ منَ المئاتِ، فمِمَّ تكونُ التسعُ؟ .. لا ريْبَ أنَّ الأولويَّةَ في التنازلِ، هيَ للعشراتِ. فلا السياقُ ولا القرائنُ تُلْزِمُ بالانصرافِ عنها إلى الآحادِ .. واختصاراً، لبثَ الفتيةُ في الكهفِ رقوداً، ثلاثاً منْ مئاتِ السنينَ، وتسعاً منْ عشراتِها.
تسعٌ تبلغُ التسعينَ:
نعودُ إلى "تسعاً" حيثُ لا يمكنُ لأحدٍ أنْ يُنْكِرَ أنَّ مَجيئَها عاريةً مِنَ الإضافةِ، أوِ البدلِ، أوِ التمييزِ، هوَ: مَجيءٌ يوجِبُ وُجودَ حذفٍ. وقدْ تبادرَ للمفسرينَ أنَّ هناكَ محذوفاً واحداً بعدَ "تسعاً"، هوَ: كلمةُ "سنينَ". وهمْ في ذلكَ على نصفِ الحقِّ، وأمَّا الحقُّ فَيَكْتَمِلُ بوجودِ محذوفَيْنِ. فما هوَ المحذوفُ الآخرُ؟
مِنْ حقِّ "تسعاً" وحقِّنا أنْ نُقَدِّرَ بَعْدَها مَحْذُوفَيْنِ لأنَّ بَعْدَ "ثلاث" مذكوريْنِ؛ فقدْ جاَءتْ "ثلاث" مضافةً إلى مِائَةٍ، وجاءتْ "مائة" مُضافةً إلى سنينَ؛ وَفْقَ قراءةِ: "ثَلاثِ مائةِ سنينَ"، أيْ: بقراءةِ: "مائة" (بِكَسْرِ التاءِ لا بتنوينِ الكسرِ).
إنَّ القرآنَ يحدِّثُ العربَ وَفْقَ أنظمةِ البيانِ، وأنظِمةِ الحسابِ التي تواضَعوا عليها، ومِنْ ذلكَ: النظامُ العشرِيُّ. ففي بيانِ الحسابِ ينتقلُ الناسُ مِنَ الآحادِ إلى العشراتِ إلى المئاتِ إلى الألوفِ وهكذا.
أجلْ، فإنَّ معاملةَ "تسعاً"، على غرارِ معاملةِ "ثلاث"، وحَسَبَ النظامِ العشريِّ - تقودُنا إلى أنَّ المحذوفَيْنِ هما: كلمةُ "عشراتٍ"، أوْ "عشرةٍ"، أوْ "عشرةً"؛ وكلمةُ: "سنينَ" أيْ: تقديرُهما معاً، هوَ منْ هذهِ:
(1) وازدادوا تسعاً- عشراتٍ سنينَ-". وتسعُ عشراتٍ، هيَ."90"
(2) وازدادوا تسعَ عشرةٍ سنينَ" _ نَقْرَأُ: "عشرة" بتنوينِ الكسرِ، أيْ "عشرةٍ" – فتكونُ الزيادةُ بذلكَ مُساويةً التسعينَ.
(3) وازدادوا تسعَ عشرةِ سنينَ" – نقرأ كلمةِ "عشرة" بكسرِ التاءِ المربوطةِ – فتكونُ الزيادةُ ثلاثةَ ثلاثينَ (3×30). ولا نَقْرؤها هكذا: "تسعَ عشرةَ" – بفتحِ الكلمتينِ – لأنَّها بذلكَ تَعْني عشرينَ إلاّ واحدةً.
(4) وازدادوا تسعاً (عشرةً سنينَ) " - تاءُ "عشرة" بالفتحِ الُمنَوَّنِ - .. وهذا التقديرُ للمحذوفَيْنِ يُبقي "تسعاً" على حالِها منْ وجودِ الألفِ المنوَّنةِ في آخرِها، ويُظهرُها بقيمةِ: 9×10 =90. فهوَ أقربُها رشداً.
ولا أجدُ في التفاسيرِ الوجيهةِ اعتباراً لتسعٍ بغيِر السنينَ؛ فالتسعُ تَتَطَلَّبُ معدوداً منْ وحداتِ الزمنِ مفردُهُ مؤنَّثٌ، وهذا المفردُ هوَ: السنةُ؛ لأنَّ اللَّبثَ كانَ عدداً صحيحاً مِنَ السنينَ: "فضربنا على آذانِهم في الكهفِ سنينَ عدداً". فلمْ يعتبروها: "تسعَ ليالٍ"، ولا "تسعَ ساعاتٍ"، ولا "تسعَ دقائقَ"، ولا حتّى "تسعَ ثوانٍ."
حسناً، عندَ العدِّ بالمِئاتِ، وَفْقَ النظامِ العشريِّ، فإنَّنَا في حالةِ التصاعدِ ننتقلُ منها إلى الألوفِ؛ وفي حالةِ التنازلِ ننتقلُ منها إلى العشراتِ. وبما أنَّ الزيادةَ فوقَ الثَّلاثِمائةٍ هي – حتماً -: أقلُّ مِنَ المائةِ، فإنَّنا نعتبرُ العدَّ في حالةِ تنازلٍ، أيْ: إنَّنا نمرُّ أولاً بخانةِ العشراتِ، لا قفزاً مِنَ المئاتِ إلى الآحادِ مباشرةً؛ فالأوْلَوِيَّةُ هيَ: اعتبارُ أنَّ "تسعاً" تحتلُّ مكاناً في خانةِ العشراتِ. وفي سورةِ الأنفالِ دليلٌ واضحٌ على أنَّ التنازلَ في النظامِ العشريِّ ينتقلُ مِنْ خانةِ المئاتِ إلى خانةِ العشراتِ. يقولُ اللهُ تعالى: "يا أيُّها النبيُّ حَرِّضِ المؤمنينَ على القتالِ: إنْ يكنْ مِنْكُم عشرونَ صابِرونَ يَغْلِبوا مِائتيْنِ وإنْ يكنْ منكُم مِائةٌ يغلِبوا ألفاً مِنَ الذينَ كفروا بأنَّهم قومٌ لا يفقهونَ" (الأنفال: 65).
¥