وقد ضعف ابن قدامة هذا القول، ورده بقوله: (وقولهم إن المس إنما يختص بباطن اليد ليس بصحيح، فإن كل شيء لاقى شيئًا فقد مسه) ([32]).
وذهب الحنفية والحنابلة في قول في كلا المذهبين: إلى أنه يجوز للمحدث حدثًا أصغر أن يمس المصحف بغير أعضاء الوضوء؛ لأن الحدث لا يحل فيها، وإلى جواز مس المصحف بما غسل من أعضاء الوضوء، قبل إكماله، لارتفاع الحدث عنها ([33]).
ولا شك في رجحان القول الأول وهو ما ذهب إليه فقهاء المذاهب الأربعة في الصحيح من مذاهبهم لقوة ما استدلوا به، ووجاهة ما عللوا به، ودونك أقوالهم المصرحة بذلك:
قال في حاشية البحر الرائق: (قال العلامة الزيلعي: ولا يجوز له مس المصحف بالثياب التي يلبسها؛ لأنها بمنزلة البدن ... وهذا يفيد: أنه لا يجوز حمله في جيبه، ولا وضعه على رأسه مثلاً بدون غلاف متجاف، وهذا مما يغفل عنه كثير، فتنبه) ([34]).
وقال الدردير في الشرح الكبير: (ومَنَعَ حدثٌ أصغر، وكذا أكبر ... صلاة، وطوافًا، ومس مصحف كتب بالعربي، لا بالعجمى إن مسه بعضو، بل وإن مسه بقضيب أي عود) ([35]).
وقال في مغني المحتاج: (ويحرم بالحدث ... وحملُ المصحف، ومسُّ ورقه المكتوب فيه، وغيره بأعضاء الوضوء، أو بغيرها، ولو كان فاقدًا للطهورين، أو مسه من وراء حائل، كثوب رقيق لا يمنع وصول اليد إليه) ([36]).
وقال في مطالب أولي النهى: (ويحرم أيضًا مس مصحف وبعضه ... بيد وغيرها كصدر، إذ كل شيء لاقى شيئًا فقد مسه، ويتجه: أنه يحرم مسه حتى بظفر، وشعر، وسن قبل انفصالها عن محلها، تعظيمًا له واحترامًا، وهو متجه) ([37]).
ثانيًا: اختلفت أقوال فقهاء المذاهب الأربعة في حكم مس أو حمل المحدث للمصحف من وراء حائل، وكذا تقليب أوراقه بعود ونحوه، أو حمله ضمن أمتعة، وبيان أقوال كل مذهب في هذه المسائل بالتفصيل على النحو التالي:
مذهب الحنفية:
ذهب الحنفية في الصحيح من المذهب إلى أنه يكره كراهة تحريم أن يمس المصحف بكم أو غيره من ثيابه المتصلة ببدنه، دون ما انفصل عنه، معللين لذلك: بأن الكم تابع ليد الماس، فكما يحرم المس باليد، يحرم بالكم بحكم التبعية، وكذا سائر الثوب المتصل به.
والقول الآخر في المذهب: أن ذلك لا يكره، لعدم مباشرة اليد ونحوها للمس؛ لأن التحريم خاص بالمس مباشرة من غير حائل، وبهذا قال محمد بن الحسن واختاره صاحب الكافي، وغيره ([38])، قال في البناية شرح الهداية: (ويكره مسه بالكم أي مس المصحف بكم الماس هو الصحيح؛ لأنه تابع له أي كون مسه بالكم مكروهًا هو الصحيح، وفي المحيط: لا يكره مسه بالكم عند عامة المشايخ لعدم المس باليد؛ لأن المحرم هو المس، وهو اسم للمباشرة باليد بلا حائل ... وفي الذخيرة عن محمد: أنه لا بأس بالمس بالكم، وقيل عنه روايتان) ([39]).
ويجوز للمحدث عندهم تقليب أوراق المصحف بقلم، أو عود، أو سكين، ونحوها لعدم صدق المس عليه ([40]).
مذهب المالكية:
نص المالكية على أنه لا يجوز للمحدث حمل المصحف الكامل من وراء حائل، كثوب، أو وسادة، أو حمله بخريطة، أو علاقة، أو بصندوق مقصود لحفظ المصحف به تعظيمًا للمصحف وتكريمًا، لكن لا بأس بحمله في وعاء مقصود لغيره كأن يحمله ضمن أمتعة قصدت بالحمل، فإن قصد حمل المصحف والأمتعة معًا، فإنه يحرم، وكذا يحرم حمل المصحف في الكرسي الخاص به، لكن لا يُمنع المحدث من مس الكرسي فقط، حالة كون المصحف عليه، لكن من غير حمل له، لانفصال الكرسي عن المصحف.
كما يحرم عندهم مس المصحف بعود، أو قضيب، ونحوه، معللين لذلك: بأنه بمنزلة اللمس باليد عرفًا، لاتصال العود ونحوه باليد فيأخذ حكم اليد ذاتها ([41]).
واشتد نكير المالكية على تقليب أوراق المصحف الكامل، أو بعضه بأطراف الأصابع المبللة بالريق والبصاق، حتى قال ابن العربي عن ذلك: (إنا لله على غلبة الجهل المؤدي إلى الكفر) ([42]).
والذي يظهر لي أن هذا محل نظر؛ لأن المقلب لأوراق المصحف بشيء من ريقه إنما قصد الاستعانة بالريق على سهولة التقليب لا إهانة المصحف بتلطيخه بالبصاق والريق، فإن قصد ذلك فهو محل التحريم الذي قد يبلغ بصاحبه الكفر عياذًا بالله.
¥