اختلف العلماء – رحمهم الله – في حكم كتابة المصحف بغير اللغة العربية، قال الزركشي في البرهان: ((هل يجوز كتابة القرآن بقلم غير العربي؟ هذا مما لم أر للعلماء فيه كلامًا. ويحتمل الجواز؛ لأنه قد يحسنه من يقرؤه بالعربية، والأقرب المنع، كما تحرم قراءته بغير لسان العرب ... )) ([102]) ونقله السيوطي في الإتقان ([103]) ولم يزد عليه، وللفقهاء في هذه المسألة قولان:
القول الأول:
أنه يجوز كتابة المصحف بغير اللغة العربية، كأن يكتب بالفارسية، أو الهندية، أو التركية، ونحوها.
وبهذا قال الحنفية ([104]) والشافعية ([105]) وبعض الحنابلة ([106]).
معللين للحكم: بأنه قد يحسن كتابته بغير اللغة العربية من يقرؤه باللغة العربية، فيكون في ذلك تيسير وتسهيل على غير العرب، لكن لا يجوز لهم أن يقرؤوه بغير اللغة العربية وإن كتب بغيرها؛ لحرمة قراءة القرآن بغير لسانه المنزل به ([107]).
القول الثاني:
أنه لا يجوز كتابة المصحف بغير اللغة العربية، وبهذا قال المالكية.
مستدلين للحكم: بأن الكتابة أحد اللسانين، فكما لا تجوز قراءته بغير العربية بدليل قوله تعالى:) بلسان عربي مبين (([108]) فإنه لا يجوز كتابته بغيرها؛ لأن الكتابة أحد اللسانين، فلا يجوز تغييره عن اللسان المنزل به ([109]).
والذي يظهر لي أن ما ذهب إليه المالكية هو الأرجح لقوة دليلهم، وظهور حجتهم، وهو المناسب لصيانة القرآن والحفاظ عليه عن التغيير والتبديل، والعلم عند الله.
الفرع الثاني: حكم مس المصحف إذا كتب بغير اللغة العربية:
ذهب الحنفية والشافعية إلى المنع من مس المصحف إذا كتب بغير اللغة العربية، فيمنع المحدث من مسه وحمله حتى يتطهر من الحدثين، كمنعه من مس المصحف المكتوب باللغة العربية؛ لعموم الأدلة الدالة على ذلك ([110]).
وذهب المالكية إلى جواز مس المصحف إذا كتب بغير اللغة العربية.
معللين: بأن المصحف المكتوب بغير اللغة العربية ليس بقرآن، وإنما هو في الحقيقة تفسير للقرآن، وكتب التفسير وغيرها من كتب العلم المتضمنة للقرآن أو لشيء منه لا يشترط لمسها الطهارة ([111]).
والذي يظهر لي رجحان ما ذهب إليه المالكية من جواز مس المصحف إذا كتب بغير اللغة العربية، لوجاهة ما عللوا به، والعلم عند الله.
المطلب السابع: حكم كتابة المحدث والكافر للقرآن
وتحت هذا المطلب فرعان:
الفرع الأول: حكم كتابة المحدث للقرآن:
اختلف فقهاء المذاهب الأربعة في حكم كتابة المسلم للقرآن، من غير مس المكتوب إذا كان عليه حدث على الأقوال التالية:
القول الأول:
أنه يجوز لمن عليه حدث أصغر أو أكبر أن يكتب القرآن، لكن من غير مس للمكتوب فيه.
وبهذا قال الحنفية ([112])، والشافعية ([113])، والحنابلة ([114]) في الراجح من مذاهبهم. مستدلين على ذلك بما يأتي:
1 - أن النهي إنما ورد عن مس المصحف، والكتابة لا تعد مسًا له ([115]).
2 - أن المباشر للمس هو القلم، وليست يد الكاتب، فهو بمنزلة مس المصحف من وراء حائل ([116]).
3 - أن الكاتب للقرآن إنما يكتب حرفًا حرفًا، والحرف الواحد لا يعد قرآنًا ([117]).
4 - أن الصحابة رضوان الله عليهم استكتبوا أهل الحيرة المصاحف وهم نصارى، فدل ذلك على الجواز ([118]).
القول الثاني:
أنه لا يجوز للمحدث حدثًا أصغر أن يكتب القرآن.
وبهذا قال المالكية في الصحيح من مذهبهم ([119])، وهو قول في كل من المذاهب الثلاثة: الحنفية ([120])، والشافعية ([121])، والحنابلة ([122]).
ووجه هذا القول: أن كتابة القرآن في حكم المس له، فتحرم، كما يحرم المس؛ لاتصال القلم بيد الكاتب ([123]).
القول الثالث:
جواز كتابة القرآن لمن عليه حدث أصغر، دون من عليه حدث أكبر.
وهو قول في كل من المذاهب الثلاثة: المالكية ([124])، والشافعية ([125])، والحنابلة ([126]).
ووجه هذا القول ما يأتي:
1 - رفع الحرج والمشقة عن صاحب الحدث الأصغر لتكرره، بخلاف الحدث الأكبر لقلته ([127]).
2 - قياس كتابة القرآن على تلاوته، فإنها تجوز لمن عليه حدث أصغر، دون من عليه حدث أكبر ([128]).
الترجيح:
¥