ويمكن الإجابة عن دليل المانعين: بأن جواز مس المحدث للدرهم ونحوه، ليس فيه إخلال بتعظيم كلام الله تعالى؛ لأن القرآن المكتوب في هذه الأشياء غير مقصود بالمس والحمل فجاز مس هذه الأشياء، ويدل على الجواز ويرجحه أنه e ضمَّن الكتاب الذي أرسله إلى هرقل آيتين من كتاب الله تعالى مع علمه قطعًا بمس الكافر له، كما أنه لم يأمر حامله بالطهارة لمسه، فدل ذلك على جواز مس الكتاب والورقة المتضمنة لشيء من كلام الله، ومن باب أولى بالجواز مس الدرهم والدينار والخاتم، والثوب، والحائط، ونحوها ([88]) والعلم عند الله.
المطلب الرابع: حكم مس المحدث للقرآن المنسوخ تلاوته والكتب السماوية الأخرى
اختلف فقهاء المذاهب الأربعة في حكم مس المحدث للقرآن الذي نسخت تلاوته ([89]) والأحاديث القدسية، ومس الكتب السماوية الأخرى: كالتوراة والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم، وصحف موسى على قولين:
القول الأول:
أنه يجوز للمحدث أن يمس ما نسخت تلاوته من القرآن الكريم والأحاديث القدسية، وكذا يجوز له مس الكتب السماوية الأخرى، وإن علم أنها غير مبدلة.
وبهذا قال بعض الحنفية ([90])، وهو مذهب المالكية ([91])، وبه قال الشافعية في الصحيح من مذهبهم ([92])، وكذا الحنابلة في الصحيح أيضًا ([93]).
ووجه هذا القول: أن المنسوخ لفظه، والأحاديث القدسية، والكتب السماوية الأخرى ليست قرآنًا، والنهي إنما ورد عن مس المحدث للقرآن فيختص الحكم به ([94]).
ومن وجه آخر: أن ما نسخ لفظه من القرآن قد زالت حرمته بالنسخ، والأحاديث القدسية، وأما الكتب السماوية الأخرى، فمع كونها منسوخة، فإن الغالب عليها التبديل والتحريف، فلا يقطع بكونها كلام الله تعالى ([95]).
القول الثاني:
أنه لا يجوز للمحدث أن يمس القرآن المنسوخ التلاوة والأحاديث القدسية، ولا شيئًا من الكتب السماوية.
وبهذا قال الحنفية ([96])، والشافعية في وجه ([97])،والحنابلة في قول ضعيف ([98]).
ووجه هذا القول: إلحاق ما نسخت تلاوته، والأحاديث القدسية، والكتب السماوية الأخرى بالقرآن في تحريم المس، بجامع الاشتراك في وجوب التعظيم والتكريم في كلٍّ.
الترجيح:
والذي يظهر لي أن الراجح هو القول الأول، وهو القول بجواز مس المحدث لما نسخت تلاوته من القرآن، والأحاديث القدسية، والكتب السماوية الأخرى، لوجاهة ما علل به القائلون بالجواز، ورجحانه على ما علل به أصحاب القول الثاني، والعلم عند الله تعالى.
المطلب الخامس: حكم مس الأشرطة التي سجل عليها قرآن
إذا سجل القرآن الكريم على أشرطة بمختلف أنواعها كأشرطة الكاسيت أو الفيديو، أو أقراص الدسك التي تستخدم في الكمبيوتر، أو نحوها، فإنه يجوز مسها للمحدث حدثًا أكبر أو أصغر فيما يظهر، وذلك لأن هذه الأشرطة ونحوها لا تسمى مصحفًا، لأنه لا يمكن قراءة القرآن منها مباشرة، وإنما يستمع للقرآن منها، أو يقرأ بواسطة آلاتها الخاصة بتشغيلها، لذا فإن هذه الأشرطة لا تأخذ حكم القرآن الكريم في تحريم مسه على غير طهارة، وبهذا أفتى أعضاء اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية برئاسة شيخنا العلامة عبد العزيز بن باز دون أن يعللوا للحكم، ونص الفتوى: (لا حرج في حمل أو لمس الشريط المسجل عليه القرآن لمن عليه جنابة ونحوها وبالله التوفيق) ([99]).
كما أرى أن يلحق بهذا في الحكم أيضًا ما لو كتب القرآن الكريم بطريقة برايل للمكفوفين، فإنه لا يأخذ حكم المصحف، فيجوز مسه مع الحدث، لأن المصحف إنما هو لما كتب باللغة التي نزل بها، وهي اللغة العربية التي يقرؤها كل متعلم لها كما قال سبحانه:) وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين (([100]). أما طريقة برايل فليست حروفًا وإنما هي طريقة يتعرف من خلالها على الحروف من خلال اللمس، فلذا فإنه إذا كتب بها المصحف إن قيل بجوازه ([101])، فإنه يجوز مسه للمحدث وإن كان حدثه أكبر، هذا ما يظهر لي والعلم عند الله تعالى.
المطلب السادس: حكم كتابة المصحف بغير اللغة العربية وحكم مسه إذا كتب بغير اللغة العربية
وتحت هذا المطلب فرعان:
الفرع الأول: في حكم كتابة المصحف بغير اللغة العربية:
¥