ثم يمضي ملخصًا هذا المنهج ونتائجه قائلا: "واعلم أن الأحاديث قد تميزت مراتبُها لهذا العهد؛ بين صحيح وحسن وضعيف ومعلول وغيرها، ولهذا كان الأئمةُ في الحديث يعرفون الأحاديث بطرقها وأسانيدها، بحيث لو رُوي حديثٌ بغير سنده وطريقه يفطنون إلى أنه قد قلب عن وضعه، ولقد وقع مثلُ هذا للإمام محمد بن إسماعيل البخاري حين ورد على بغداد وقصد المحدثون امتحانَه فسألوه عن أحاديث قلبوا أسانيدها فقال: لا أعرف هذه ولكن حدثني فلان، ثم أتى بجميع تلك الأحاديث على الوضع الصحيح، وردَّ كل متن إلى سنده، وأقروا له بالإمامة" [ص415].
ويقول أبو الأزهر: "كان بسمرقند أربع مئة ممن يطلبون الحديث، فاجتمعوا سبعة أيام، وأحبوا مغالطة محمد بن إسماعيل، فأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق، وإسناد اليمن في إسناد الحرمين فما تعلقوا منه بساقطة لا في الإسناد ولا في المتن".
يقول أحمد أمين في كتابه (ضحى الإسلام) معلقا:"وقد رزق البخاري خصلتين بارزتين مكنتاه من أن قرب من غرضه:
أ- حافظة قوية لاقطة وخاصة فيما يتعلق بالحديث .. وكان يستعين على حفظه بالتقييد وكثرة الفكر، فقد رووا عنه أنه كان يقول: "ما تركتُ حديثًا في البصرة إلا كتبته" .. وذكر عنه أنه كان يقوم في الليل مرارًا يأخذ القداحة فيوري نارًا ويسرج ثم يخرج أحاديث فيعلم عليها ثم يضع رأسه!.
ب- مهارته في تعريف الرجال ونقدهم، وفي ذلك وضع كتابه "التاريخ" لتمييز الرجال، ورووا عنه أنه قال: "قَلَّ اسمٌ في التاريخ إلا وله عندي قصة" [ضحى الإسلام - دار الكتب العلمية ط1ج3ص90].
كما أنه إن اعترض بعضُ المحدثين على جملة من أحاديثه لا تتجاوز المئتين فذلك من باب التزامه بالشروط المنهجية التي اشترطها أو لم يلتزم؛ وليس طعنًا في صحة الأحاديث؛ لأنها قد وجدت لها طرق شتى لتخريجها وتصحيحها، ولم يعد حولها أي التباس فيما يذكره جهابذة المحدثين، إذ سلموا بقوة منهج البخاري وأسبقية الجامع الصحيح في باب صحة الحديث كما يصنفه ابنُ الصلاح في المقدمة وغيره كثير.
2) هذه الامتحانات وهذه الشواهد مذكورة ومشهورة في جل كتب التاريخ ومناهج المحدثين، ومن ثم فلم يكن البخاريُّ يعمل في الظلام أو يكتب في الخفاء حتى يتهم صحيحُه بوقوع الدس فيه؛ لأن هذه سخافة وبلادة ما بعدها من بلادة.
خاصة إذا علمنا أن علم الحديث مما تعم به البلوى عند المسلمين؛ لأنه أصل التشريع لديهم، ومن ثم فكان ما يكتب في الحديث يطلع عليه العلماءُ من المشرق والمغرب في حينه.
كما أن الدس لو طال صحيحَ البخاري فسرعان ما سينكشف؛ لأن المستنسخين للنص الأصلي كثيرون، ولهذا فعند المقابلة يتبينُ الاختلافُ بين النسخ؛ ولكن الأمر غير ذلك، إذ صحيح البخاري موزع عبر العالم ومنذ قرون ولم يحدث أن سربت نسخة مدسوسة تخالف ما عليه النسخ المتداولة عند المحدثين والعلماء، فلعل مدعي الدس على البخاري يكون مدسوسًا على وطنه وأمته وليس بأصيل فلينظر في حاله قبل فوات الأوان.
إذن فالدس موجود في العقل الفاسد لزاعمه، وليس موجودًا حقيقة، وهو بهذا يساير مزاعم الزنادقة من الشيعة الإسماعيلية الباطنية والرافضة المتطرفة الذين يقولون بأن القرآن قد بُدِّل، ويكفي هذا ضربًا من الزندقة والمروق من الدين، الذي سبق أن بينا نموذجه عند متفلسفة عصرنا في كتابنا "البطالة الفكرية في مجتمعنا".
3) من هنا فلم يكن البخاريُّ مجردَ راوٍ شخصي أو مؤلف، وإنما كان عملُه مبنيًا على قواعد موضوعية وعلمية، ابتداء من الضابط النفسي والكمال الجسدي، إلى الضابط العقدي الأخلاقي الذي لبه الصدقُ والإخلاص، ومن ثم التخصص في الشهادة التي لا تتم إلا بمبدأ العدالة المبنية عليها الأحكام والأنساب والمواريث وما إلى ذلك من العقود.
ولهذا فمن شك أو طعن -تفسيقًا وتعريضًا بسوء القصد- في روايات البخاري كرواية وإثبات، فالأولى به أن يطعن أو يشكك في نَسَبه إلى أبيه ما دام الإنكارُ يكون من أجل الإنكار، والهوى هو ديدنه.
فلا ينبغي للبعض -ممن يسلك هذا التطرفَ- أن يحكم على البخاري وغيره من كبار المحدثين؛ لأنه قد يقال له: إن أنت أنكرت روايةَ البخاري في صحيحه، فأنت لقيط أو دعيّ بهذا المقياس، مع أن أباك وأمك قد يكونان معروفين، وثابت زواجُهما بشهادة العدلين أو بينة السماع!!!
¥