[إعجاز الحجاج في القرآن الكريم .. (4)]
ـ[أبو عبد المعز]ــــــــ[02 - 01 - 08, 10:31 م]ـ
{وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السماوات والارض}
- «ما» في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، و «لنا» في محلِّ رفع خبر ل «ما».
و «أَلاَّ نُقَاتِلَ» تحتمل وجوها:
أفضلها عند النحاة قول الكسائي في تقدير حرف جر محذوف هو "في"فيكون المعنى:
وما لنا في ألاَّ نقاتل، أي: في تركِ القتالِ،
اللام في "لكم"دالة على الغنم ومقابلها "على" الدالة على الغرم ..
كما في:
"لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ".
"فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا".
"كذبت له وكذبت عليه".
فتأويل الآية حينئذ:
ما الذي استفدتموه من إمساككم عن الإنفاق ...
ولو قال: ما عليكم ألا تنفقوا .. سيضحى المعنى:
ما الذي ستخسرونه من إمساككم عن الإنفاق ...
والآية تحاججهم على المعنى الأول .. فكأن هؤلاء المنافقين تحركهم الرغبة في الاستفادة لا التحرز من الفقدان .. أو هم أصحاب طمع لا أصحاب حيطة!!
الاستفهام هنا لا يراد به القوة الإنجازية الحرفية، بل القوة الانجازية الاستلزامية،مدارها على معاني الإنكار والتوبيخ والتبكيت ..
والقصد الحجاجي من هذا الاستفهام هو إضعاف موقف الخصم معنويا .. بالتنبيه على أنه لا حجة له في سلوكه ذاك.
" .. وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السماوات والارض"
"الواو" للحال، وللجملة الحالية موقع حجاجي مشهود في مثل هذه التعابير التي تستهل ب"مالك " أو "ما عليك" .. فتكون الجملة الحالية سادة على الخصم منافذ الهرب والتذرع ..
فالمعنى:
أنكرعليهم ترك الإنفاق وقد التبسوا بهذه الحالِ، حالِ أن لله ميراث السماوات والأرض!!
وجاءت كلمة "ميراث"في الآية حاملة طاقة حجاجية خارقة مؤشره على إعجاز القرآن!!
"وَلِلَّهِ ملك السماوات والارض ... "عبارة لها وظيفة حجاجية لا تنكر ولكنها تقصر كثيرا عن الحجاج الباهر في" .. وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السماوات والارض"
التعبيران معا وردا في بداية سورة الحديد لكن وضع كل واحد في مقامه المعلوم!
تأتي قوة كلمة "ميراث"من كونها دالة على معنى حيازة الملكية مع معنيين آخرين:
أ-مالك سابق للمال.
ب-هلاك هذا المالك.
ج-انتقال المال إلى مالك جديد.
وحجاج الآية يستثمر بقوة معنى الهلاك ومعنى الانتقال .. بحيث يصبح سلوك المنافقين في الامتناع عن الإنفاق سلوكا باهتا إن لم يكن متناقضا ..
البخيل حين يمتنع عن الإنفاق .. يعلن أنه لا يريد الإنفصال عن ماله .. وحجته في الغالب الأعم خشية الفقر، لذا تراه دوما يمسك ويستزيد. إنه يتوقع الإنفصال دائما لكن من جهة ماله .. أعنى يخشى:
"ذهاب المال وبقاءه هو ... "
وجاء الحجاج في الآية ليصفع البخيل بتذكيره باحتمال آخروهو:
"أن يذهب هو ويبقى ماله لغيره."
وهذه أشد من الأولى من جهتين:
-أنها حتمية والأولى ظنية .. فالفقر محتمل فقط لكن الموت يقيني ..
-أنها تطعن البخيل في الصميم .. فالمال الذي يغار عليه من الناس سوف يبتذلونه ويتداولونه رغم أنفه ... فظهرت المفارقة في أبشع صورة بين:
-من تكلف مشقة الجمع بدون استمتاع ...
-ومن استمتع بدون تكلف مشقة الجمع ...
فانظروا إلى القوة الحجاجية لكلمة ميراث-رحمكم الله-
لكن لكلمة "ميراث" عطاء ثانيا باعتبار معنى انتقال الملكية بعد هلاك صاحبها، واعتبار معنى "فِى سَبِيلِ الله"المقيد للإنفاق ...
فالتنديد ليس بالممتنعين عن الإنفاق بإطلاق، بل بالممتنعين عن الإنفاق في سبيل الله .. لذلك قال المفسرون إن الآية نزلت في المنافقين ...
فهذا المنافق يأبى أن يتنازل عن بعض ماله لربه ...
فجاء التسفيه:
مالك سيرثه الله رغم أنفك .. فيضيع مقصودك الأول باستبقاء المال وعدم وصوله لله .. وتبوء مع ذلك بسخطه وعقوبته ...
كل ملكية هي لله خلقا أولا،و تخويلا وسطا، وميراثا آخرا!!!
فما أحمق من لا ينفق في سبيل الله .. !
إذ لا يكون الإنسان إلا رادا الملكية لصاحبها .. فأي حرج في ذلك ..
وحتى لو أبيت ردها طوعا فستردها كرها ...
رد وخزي معا ...
فأي عاقل يختار لنفسه هذا المسلك وأي راشد يختار لنفسه ذاك المصير!!