تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

"سحر الجميع"؛ كم مسحورا؟ إنهم غير محصورين، غير معدودين. صار السحر خاصة ذاتية للصوت الذي يسحر أينما حل. إنهم "الجميع"، هكذا أضاف"أل" الدالة على العموم إلى "جميع" الدالة على العموم أيضًا؛ ليُحدث الأثر المطلوب. إنه يسخر كل خصائص اللغة لتأكيد انفرادية الصوت وتميزه على ما عداه."طربًا"، ويعود الموقع الإعرابي ليدلي بدلوه. كيف؟ "طربًا" تصلح أن تكون مفعولاً لأجله فتجيب عن السؤال: لماذا يُسْحَر الجميع بصوته الفتان؟! ويكون الشاعر بذلك قد استوفى عناصره المنطقية؛ إذ هناك ساحر، ومسحور، وعلة.

وهذه العلة ليست علة صامتة؛ إنها علة تجعل صاحبها في غير عادته؛ إذ الطرب خفة تصيب الإنسان لفرح أو حزن. هنا الخفة سببها الفرح والانسجام والانتشاء. هذا الاحتمال الإعرابي يضعنا في هذه المنطقة التعبيرية التي تعلل سر سحر الصوت وانسجام المستمع، ويكون ضبط الكلمة بهذا الوجه "طَرَبًا". أما إذا تغير الضبط فصار "طَرِبًا" فتكون الصيغة مبالغة أو صفة مشبهة–وهما من المشتقات الدالة على المبالغة إما بالمبالغة أو الثبوت-، فيكون الموقع الإعرابي حالاً يبين هيئة الصوت. هل هذا الصوت صوت مألوف؟ لا. إنه صوت يسري ومعه الطرب، إنه صوت يصل محمولاً على بساط الطرب.

وبهذا تتعاضد ألفاظ الدلالة "سحر – الفتان – طرباً"، وتتآلف وتتحد في اتجاهها نحو المركز الدلالي المعنون بـ"عبقرية الصوت". وكلها ألفاظ تمثيلية تجعلنا نتمثل المسحورين وهم مأخوذين أينما وُجِدوا من الفتنة والطرب. "سحر الجميع بصوته الفتان ... طربًا". متى؟ متى يحدث ذلك؟ وعلى أي وجه يكون؟ ينشأ السؤال وتأتي الإجابة سريعًا وبدون فاصل مكاني. لماذا؟ لأن هذا الصوت "يرتل" يجود ويحسن. ماذا؟ القرآن الكريم. كيف؟ بأفضل طرق الأداء "بأعذب الألحان".

إذًا: هذا الصوت العبقري شاكر لربه. لماذا؟ لأنه يسخر عبقريته لخدمة قرآنه، وليس لشيء آخر. وهذا منحى آخر من مناحي السيطرة والهيمنة له. لماذا؟ لأن المستسلم له لن يتحرج من الاستماع، ولن يتأثم به. لماذا؟ لأنه يستمع شيئًا يجعل الاستماع والطرب عبادة. إذن؛ فليترك المستمع زمامه؛ فهو في عبادة كلها متعة!! "أعذب الألحان" إنه ليس لحنًا واحدًا، ليس أسلوبًا أدائيًّا واحدًا؛ إنما هي أساليب متعددة تتعدد لتتلاءم مع القراءات المتعددة، ولتتوافق مع المواقف القرآنية المتعددة، تنبع من الحالات النفسية المتعددة.

"سحر الجميع بصوته الفتان ... طرباً يرتل أعذب الألحان" ويأتي الضمير هنا علامة ربط كلمات البيت بعضها بالبعض الآخر، وربطها كلها بالعنوان؛ فيتحقق تماسك نص البيت. لماذا؟ لأن الضمير الغائب المقدر بـ"هو" المستتر في "سحر (هوالقارىء) " -إذا اعتبنار "بصوته ... " متعلقاً بالفعل- يجعل القارئ الشعر يعود مكانيًّا إلى العنوان؛ حيث مرجع الضمير. ثم يأتي الضمير البارز في "صوته"، والضمير المستكن في صيغة المبالغة "الفتان (هو) "، والضمير المستتر في "يرتل (هو) " –تأتي كل هذه الضمائر لتربط كلمات البيت بمرجعها في العنوان. ويؤدي تكرار حركة العين –أماماً ووراء- إلى أن القارئ الشعر يروح ويغدو، ويكرر المرور الذهني والدلالي؛ فيزداد إثراء دلاليًّا، وتزداد حيوية اتصاله بالنص موضوع المرور.

إذا تأملنا قاموس البيت وجدناه قاموسًا مرحًا مشعًّا للحيوية، تتسق كلماته مع الحالة النفسية المقبلة الراغبة في "بترنم ذهل الكثير لحسنه ... فكأنه طيف من الألوان". وتستمر السيمفونية الجمالية!! كان البيت السابق يتحدث على الصوت، ثم تحدث على الأداء. وهنا يبدأ بهما معًا، الصوت في حالة أدائه الخاصة "بترنم". الباء سببية، "وترنم" نكرة للتعظيم، بسبب الترنم يغيب المستمعون عما حولهم، ينسون دنياهم وهمومهم، ينسون أنفسهم. ماذا يتذكرون؟ فيم يعيشون؟ يعيشون في أجواء هذا الصوت الشجي، يتذكرون تلك الأجواء الروحية التي تسمو بهم فوق لحظتهم، ويجعلهم يحلقون عاليًّافي سماوات العلو والسمو. وليس هو "ترنم" فقط؛ بل هو "ترنم حسن"، وليس هو ترنم أحادي النغم؛ بل هو متعدد النغم متداخله كالطيف اللوني الذي تتداخل فيه الألون، وتتضح إذا تعرضت للمنشور الزجاجي.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير