وكانَ مِنْ أبْرزِ عُلماءِ هذه الفَتْرَةِ عَالِمان كانَ لَهُما الدَّوْرُ الكَبيرُ في ازْدِهارِ الحَياةِ العِلميَّةِ،هما أبُو الحُسين بنُ الطّراوةِ وأبو الحسن بن الباذِشِ الغرناطي، فعلى هذين العَلَمَين أَخَذَ كَثيرٌ مِنْ علماءِ الأندلسِ مَعَارِفَهُم، وكَانا في تَنَافُسٍ ونِدّيّةٍ عِلميَّةٍ دائمةٍ.
وقد اختارَ الباحِثُ شَخصيَّةَ ابنَ الباذِشِ الغَرْناطيّ لِتَكونَ مَوْضوعَ هذا البحثِ مَدفوعاً بعِدّةِ أمورٍ: مِنْها أهميَّةُ هذه الشخصيَّةِ،فهي أَبْرَزُ شَخْصيَّةٍ نَحْويَّةٍ في تلكَ الفترةِ، ومِنْها أنَّ هذه الشخصيَّةَ لمْ تَنَل اهتِمَامَ الباحِثين، فلم يكتبوا عنها، والسَّبَبُ في ذلك أنَّه ليسَ لهذِه الشَّخْصيَّةِ كُتُبٌ موجودةٌ، مَخطوطةٌ كانت أو مَطبوعةٌ، فآراؤه واختياراتُه مَبثوثةٌ في بُطونِ الكتبِ، ومِنْ هذِه الدَّوافعِ مُحاولةُ إبرازِ الفِكرِ النَّحْويِّ لِهذِه الشَّخْصِيَّةِ.
وارْتَأَى الباحثُ تَقسيمَ هذا البحثِ إلى مُقدِّمَةٍ وثلاثةِ فُصولٍ وخَاتمةٍ، أمّا الفصلُ الأوَّلُ فحَمَلَ عنوانَ"عَصْر ابنِ الباذِش وحياتِهِ "،تَحدّثتُ فيه أولاً عن الفترةِ التي عاشَ فيها ابنُ الباذِش مِنْ ناحِيَةٍ سياسيَّةٍ وعِلميَّةٍ،ثمّ انتقلتُ إلى الحديثِ عَنْ حياةِ ابنِ الباذِش،وقد تَحَدثتُ في هذا المَوضِعِ عن اسْمِه وكنيتِه ومولدِه ولقبِه و أخلاقِه وعلمِه وشيوخِه وتلاميذِه وآثارِه وشعرِه ووفاتِه،ومِنْ الصُّعوباتِ التي واجَهَتني في هذا الفَصْلِ وُجودُ شخصياتٍ غيرِ معروفةٍ،فلمْ أعثرْ على ترجَمَةٍ لها، وأُحبُّ أنْ أُشيرَ هنا إلى أنّ هذا بحثٌ صَغيرٌ وليسَ كِتاباً، ولذلك تَعرّضتُ لشيوخ ابنِ الباذِشِ وتلاميذِه باختصار.
وأمّا الفصلُ الثاني فهو بعنوان: " آراؤه واختياراتُه وتوجيهاتُه النحويَّةُ "، وقد ضَمَّنْتُ هذا الفصلَ ما جَمَعْتُه مِنْ أمّهاتِ الكتبِ، وجَعَلْتُ هذا الفصلَ أربَعَة أقسام، الأوّلَ: آراؤه واختياراتُه وتوجيهاتُه في مَسائلَ نحويةٍ عِدّةٍ، والثاني: رأيُه في العاملِ النحويِّ في عِدَّةِ مَسائلَ نحويةٍ،والثالثَ: رأيُه في العلّةِ النحويةِ في بعضِ المَسائلِ، والرابعَ: توجيهاتُه لبعض الآياتِ القرآنيةِ.
وأمّا الفصلُ الثالثُ فقد حَمَلَ عنوانَ: " خِلافُه مَعْ ابنِ الطَّراوَةِ "، وهذا هو أصغرُ فصولِ هذا البحثِ،والسببُ في ذلك أنّنا لا نَملكُ تلك الكتبَ التي وَضَعها هذان العالمان أثناءَ تنافُسِهما،فقلّةُ المَعلوماتِ هي السببُ في صِغَرِ هذا الفصلِ.
وخَتَمتُ هذا البحثَ بالحديثِ عنْ نتائجِ هذا البحثِ،وقد تَضمّنَتْ هذه الخاتمةُ الحديثَ عنْ منهجِ ابنِ الباذِش النحويّ الذي حاولتُ اسْتِخْلاصَه من المَسائِل النحويةِ التي دَرَسْتُها، ويُضافُ إلى المَنْهَجِ اسْتِخْلاصُ النتائجِ في جَميعِ البحثِ.
و أرجو أنْ تكونَ هذه المُحاولةُ قد أعطتْ هذا العالِمَ شيئاً مِنْ حَقّه علينا، ولا أدّعي أني قد أعطيتُ هذا العالِمَ كامِلَ حَقِّه، فهو يَحْتاجُ إلى دراسةٍ أكثرَ اتِّساعاً،وخِتاماً هذا جَهْدي قدّمتُ فيه ما أقْدَرَني اللهُ على تقديمِه،كما يَفتَحُ الباحثُ صَدْرَه لأيِّ نقدٍ مفيدٍ،وأرجو أنْ يَفيدَ الباحثون مِنْ هذا البحثِ كما أفادَ الباحثُ مِنْ غيرِه، كمَا أرجو أن يغفرَ لي ربُّ العالمين ما في هذا البحث مِنْ نَقْصٍ وزَلَلٍ. والحمد لله ربّ العالمين
الفصل الأول: عصر ابن الباذِشِ وحياته
أوّلاً:الحياة السياسية والعلمية في الأندلس في عصر ابن الباذِش
وُجِدَ في الأندلسِ في الفترةِ ما بين (444ـ528هـ) نَمَطان من أَنماطِ الحكمِ، الأولُ ما يُعرَفُ بدولِ ملوكِ الطوائفِ، والثاني دولةُ المُرابطين، أمّا دولُ الطوائفِ فهي ممالكُ صغيرةٌ كانَ بعضُ الملوكِ قد شادها، وهي رمزٌ للفرقةِ والتناحرِ، ومن هذه المَمالك دولةُ بني جَهْوَر في قرطبةَ (422ـ463هـ) ودولةُ بني زِيْرِي بن مَنَاد في غرناطةَ (403ـ483هـ) ودولةُ بني عَبَّاد في اشبيليةَ (414ـ484 هـ) ودولةُ بني الأفْطَسِ في بطليوسَ (413ـ488هـ).
¥