وبقيت هذه الدولُ في نزاعٍ وفرقةٍ فيما بينها، فكلُّ دولةٍ منها تُحاولُ السيطرةَ على الأخرى، وكانت هذه الدولُ تستعينُ بالنَّصارى في هذه المُنازعاتِ، وبلغت هذه الدولُ من الضعفِ والهوانِ أنْ صارت تُؤدّي الجزيةَ للنَّصارى، واستغلَّ النصارى هذا الضعفَ، فَبَدَأوا بمُناوَشَةِ المسلمين،وبقي الأمرُ على هذه الحالِ حتى سقطت طُلَيْطِلَةُ بأيدي النصارى سنة 478هـ،فتنبَّهَ بعضُ المسلمين لهذا الخَطَرِ الداهمِ فَأرسَلوا إلى أمير المسلمين يوسفَ بن تاشفينَ، فدخلَ الأندلسَ سنة 479هـ، وبدأ المُرابِطونَ عهدَهم في محاولةِ السيطرةِ على الأندلسِ،واستمروا في حروب طاحنةٍ مع ملوكِ الطوائفِ من جهةٍ ومع النصارى من جهةٍ أخرى،ولم يستقرَّ الأمرُ لهم في الأندلسِ إلاّ في سنة 500هـ حيث تمّ الاستيلاءُ على معظمِ دولِ ملوكِ الطوائفِ ([1]).
هكذا كان الجوُّ السياسيُّ في الأندلسِ في القرنِ الخامسِ الهجري، فهوـ كما يلاحظ ـ جوُّ تمزّقٍ وفُرقةٍ، فلم تشهد هذه الدولةُ الإسلاميةُ الاستقرارَ في الحياةِ السياسيةِ والعسكريةِ إلا في سنواتٍ قليلةٍ في عهد المرابطين 0
والظاهرُ أنّ هذا الاضطرابَ السياسيَّ والعسكريَّ لم يكن تأثيرُه على الحياةِ العلميةِ كبيراً فقد استمرَّ التكوينُ الحضاريُّ لهذه الدولة،وشهدت الأندلسُ ازدهاراً علمياً وفكرياً لم يكن لها من قبلُ، فبقي العلماءُ عاكفين على الدرسِ والتحصيلِ في شتّى الفنون، وذلك يرجعُ إلى الرعايةِ التي حظيَ بها العلماءُ من حكامِ الأندلسِ، فقد كان ملوكُ الطوائفِ حَريصين على استقطابِ العلماءِ وتكريمهم، والظاهر أنهم كانوا يرون في العلماءِ عوناً لهم في نِزاعاتِهم، ولا يُنْسى أنّ بعضَ هؤلاء الملوكِ كان من المعروفين في العلوم والآداب كالمعتمدِ بن عبَّاد والمظفّرِ بن الأفطس.
وشهد الأندلسُ نشاطاً علمياً في شتّى العلوم،فبرزت مجموعات كثيرة من العلماء، ففي العلوم الشرعية أذكر منهم: أبا مُحَمَّد بن حَزم الأندلسي الظاهري ([2]) (ت 456هـ)،وأبا جعفر أحمد بن علي بن أحمد بن الباذِش ([3]) (540 هـ) صاحبَ الإقناع في القراءاتِ السبع، وابنَ عطية الأندلسي ([4]) (ت 542هـ) صاحبَ المحرِّرِ الوجيزِ في التفسير،وأبا بكر بن العربي ([5]) (ت 543هـ) والقاضي أبا الفضلِ عياض بن موسى ([6]) (ت 544هـ)، وغيرهم كثير.
وبرزَ في الشعرِ والأدبِ جملةٌ من الأدباءِ، أبرزُهم ملكُ دولةِ بني عبَّاد المُعْتَمدُ بن
عبَّاد ([7])، وابن زَيدونَ ([8])،وابنُ خَفاجَةَ ([9])، وابنُ حَمديسَ ([10])، كما ظهرَ مجموعةٌ من العلماءِ في الطب، أشهرُهم ابنُ زُهْر الإشبيلي ([11])،وكان هناك نشاطٌ في علومِ الرياضياتِ والفلكِ والتاريخِ وغيرها من العلوم.
واهتم العلماءُ في هذا العصر بالنحو واللغة،ومن مظاهرِ هذا الاهتمامِ نشاطُ حركةِ التأليفِ في هذين الموضوعين، وكثرة العلماء فيهما، ومن أبرز العلماء الذين كان لهم جهدٌ ملحوظٌ في النحو واللغة:
1 ـ ابنُ سيدَه اللغوي علي بن إسماعيل (ت 458هـ) صاحبُ المخصَّص والمحكم وشرح إصلاح المنطق ([12]).
2 ـ الأعلمُ الشَّنْتَمَري، أبو الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى (ت476هـ)،له تلاميذ كثر، منهم ابن أبي العافِيَة،وابن الطراوة،وغيرهما،وله من الكتب تحصيلُ عينِ الذهبِ والنكت في تفسير كتاب سِيْبَوَيْه وشرح ديوان الشعراء الستة،وغيرها ([13]).
3 ـ مُحَمَّد بن أبي العافِيَة اللخمي (ت509هـ) الإمامُ بجامع إشبيليةَ،أخذ عن الأعلمِ الشَّنتمري، وكان من أهل المَعْرِفَة والأدب، أخذ الناس عنه ذلك ([14]).
4 ـ أبو مروان عبد الملك بن سراج (ت 489هـ) ([15]).
5 ـ أبو بكر مُحَمَّد بن هشام المَصحَفي (ت481هـ) ([16]).
6 ـ عبدالله بن مُحَمَّد بن السيد البطليوسي (ت 521هـ) من كبار علماء الأندلس في اللغة والنحو والفلسفة والفقه، له الاقتضاب في شرح أدب الكتاب، والحلل في أبيات الجمل وشرح الموطأ وغيرها من الكتب ([17]).
7 ـ ابن الأبرش خلف بن يوسف (ت 532هـ) كان إماما في العربية واللغة، له حظ وافر من الفرائض ([18]).
8 ـ ابن الأخضر، أبو الحسن علي بن عبد الرحمن بن مهدي النحوي الإشبيلي (ت 514هـ) ([19]).
¥