ويَرَى أبُو حيَّانَ أَنَّ العِلَّةَ التي ذَكَرَها ابنُ الباذِش في أنَّ لا مَوْضِعَ لِمَا دَخَلَتْ عَلَيه (أَنَّ) غَيرُ صَحيحَةٍ، فالعِلَّةُ ليْسَت هي ظُهُورُ عَمَلِ العَامِلِ بدَلِيلِ: (لَيْسَ زَيْدٌ بقائِمٍ) فقد ظَهَرَ العَامِلُ، ولَهُمَا مَوْضِعٌ ([195]).
ويُعَلِّقُ أَيْضاً عَلى مَا ذَكَرَه مِنْ إِجْمَاعِ النُّحَاةِ عَلى (لَيْتَ)،وأَنَّه لا مَوْضِعَ لِمَا دَخَلَتْ عَلَيه، فهُناكَ خِلافٌ في هذه المَسْأَلةِ، فقد ذَهَبَ الفَرَّاءُ إلى أَنَّ حُكْمَ (لَيْتَ) حُكْمُ غَيْرِها مِنْ أَخَواتِها، فلَيْسَ في هذا الرَّأيِ إِجْمَاعٌ كَمَا ذَكَرَ ابنُ الباذِش ([196]).
ورَدَّ السَّمينُ الحَلَبي قَوْلَ ابنِ الباذِش: (وأنَّ لا فَرْقَ بَيْنَ أَنَّ وبَيْنَ لَيْتَ) فقال ([197]): "فإِنَّ الفَرْقَ قائِمٌ، وذلك أَنَّ حُكْمَ الابْتِداءِ قد انتَسَخَ مَعْ (لَيْتَ) و (لَعَلَّ) و (كَأنَّ) لفظاً ومعنىً بخِلافِه مَعْ (إِنَّ) و (أَنَّ) فإِنَّ مَعْناه معهما باقٍ "
جواز نصب صفة (أي) في النداء
أَجَازَ المَازِنِيُّ نَصْبَ صِفَةِ (أَيّ) في النِّداءِ،وذلكَ في قَوْلِكَ: (يَا أَيُّها الرَّجُلُ) فأَجَازَ النَّصْبَ في (الرَّجُلِ) ([198])،ووَجْهُ نَصْبِهِ عِنْدَ المَازِنِيِّ مِنْ جِهَةِ القِياسِ فيهِ قَوْلان:
أَوَّلُهُمَا: الحَمْلُ عَلى مَوْضِعِ (أَيّ)، فالأصْلُ في النِّداءِ النَّصْبُ ([199])، ورَدَّ النُّحَاةُ هذا القِياسَ بأنَّ الحَمْلَ عَلى المَوْضِعِ حَمْلٌ عَلى التَّأويلِ،ولا يُحْمَلُ عَلى التَّأويلِ مَا لمْ يَتِمَّ الكَلامُ ([200])،كَمَا قالُوا: إِنَّ الحَمْلَ عَلى المَعْنى إِنَّما يَكُونُ في المُنَادى المُسْتَغْنِي عَنْ الصَّفَةِ، فأَمَّا (أَيّ) فلا تَسْتَغْنِي عَنْ الصِّفَةِ، فلا تُحمَلُ صِفَتُها عَلى المَعْنى ([201]).
وثانِيها: القِياسُ عَلى صِفَةِ غَيْرِه مِنْ المُنَادَياتِ المَضْمُومَةِ ([202])،ورَدَّه النُّحَاةُ، قالَ القوَّاسُ ([203]): " وهو ضَعِيفٌ؛ لأنَّ المَقْصُودَ بِصِفَةِ العَلمِ الإيضاحُ، والمُنَادَى هُناكَ هو العَلَمُ،وها هُنا الصِّفَةُ هي المُنَادَى،و (أيّ) وَصْلةٌ إلى نِدَائِه، ولِذلكَ لا يُوقَفُ عَلى الوَصْلَةِ دونَ الصِّفَةِ بخِلافِ العَلَمِ".
أَمّا وَجْهُ النَّصْبِ مِنْ جِهَةِ السَّمَاعِ فقد أَنْكَرَ النُّحَاةُ وُجودَ سَمَاعٍ في هذا المَوْضِعِ ([204])، قالَ ابنُ بُرْهان ([205]): " ولمْ يُسْمَعْ في (الرَّجُلِ) النَّصْبُ، كَمَا قالوا: (يَا زَيْدُ الفاضِلَ)؛لأنَّ (الرَّجُلَ) وإنْ كَانَ صِفَةً في اللَّفْظِ فإِنَّه المَقْصُودُ بالنِّدَاءِ، فأَلزَمُوا (الرَّجُلَ) الرَّفْعَ ليَدُلُّوا عَلى الفَرْقِ بَيْنَهُما، وسَوَّى بَيْنَهُما أبو عُثمَان قِياساً مِنْ غَيْرِ رِوايَةٍ ".
ونَقَلَ أبُو حيَّانَ عَنْ أبي الحَسَن بنِ الباذِش أَنَّ النَّصْبَ في هذا المَوْضِعِ مَسْمُوعٌ عَنْ العَرَبِ، ولمْ يَذْكُرْ شاهِداً عَلى ذلك ([206])،وذكر الصَّبَّانُ في حَاشِيَتِه عَلى الأشْمُوني سَمَاعَ ابنِ الباذِش، ونَقَلَ شَاهِداً عَلى ذلكَ عَنْ السّنْدُوبي وهو قِراءَةُ بَعْضِهم: " قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرِينَ " {الكافرون 1} بالنَّصْبِ ([207])،ولمْ أجِدْ في كُتُبِ القِراءاتِ التي تَيَسَّرَ لي الاطِّلاعُ عَليْها هذه القراءَةَ،ولا يَعْني ذلكَ أَنَّ هذه القراءَةَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ، فأبو حَيَّانَ يُؤكِّدُ أَنَّ عِنْدَ ابنِ الباذِشِ شَاهِداً عَلى ذلكَ، والصَّبَّانُ يَنْقُلُ هذا الشَّاهِدَ القُرْآنِيّ،ونَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ ابنَ الباذِشِ مِنْ أَكابِرِ عُلماءِ القِراءاتِ في عَصْرِه،ويَشْهَدُ عَلى ذلكَ كِتابُ وَلدِه المَوْسُومُ بـ (الإقناعِ)، فمِنْ الصَّعْبِ الشَّكُّ فيما يَنْقُلُ هذا العَالِمُ مِنْ رِواياتٍ عَنْ القرَّاءِ.
والحَقُّ أَنَّ هذه القِراءَةَ ـ إنْ صَحَّت ـ دَعَامَةٌ تُقَوِّي مِنْ رَأيِ المَازِنِيِّ، ومَا نُقِلَ عَنْ ابنِ الباذِش يَدُلُّ عَلى جَوازِ نَصْبِ صِفَةِ (أَيّ) في النِّداءِ عِنْدَه، فلو كَانَ هذا السَّماعُ غَيْرَ مُعْتَدٍّ بِهِ عِنْدَه مَا ذَكَرَه.
الفصل بين نكرتين
¥