مَعْرِفَتَيْن والمُخَاطَبُ يَعْرِفُ كُلاً عَلى انْفِرَادِه لا التركيب، فأَرَدْتَ أَنْ تُخْبِرَ بانْتِسَابِ أَحَدِهِمَا إلى الآخَرِ، فأنتَ إذن بالخيارِ، وإِنَّما جَعَلْتَ الاسْمَ والخَبَرَ [بالخيارِ] لأنَّ كُلاً مِنْهُما عِنْدَه في المَعْرِفَةِ سَواء، إذ مَقْصُودُكَ هو أَنْ تُعَرِّفَه تَرْكِيبَهُما ".
(كان) التي فيها ضمير الشأن ناقصة
اخْتَلَفَ النُّحَاةُ في (كَانَ) التي يُضْمَرُ فيها الأمْرُ والشَّأْنُ نَحْوَ قَوْلِ الشاعِرِ ([188]):
إِذَا مِتُّ كَانَ النَّاسُ صِنْفَانِ:شَامِتٌ وآخَرُ مُثْنٍ بالّذي كُنْتُ أَصْنَعُ
فقد نَقَلَ لَنا أبو جَعْفَر بنُ الإمَامِ أبي الحَسَنِ بنِ الباذِش عَنْ أبي القاسِمِ الشَّنْتَريني أنّه قال ([189]): " مَنْ زَعَمَ أَنَّ كَانَ التي يُضْمَرُ فيها الأمْرُ والشأنُ هي النَّاقِصَةُ فقد أَخْطَأَ، وإنّما هي غَيْرُها "،والمَقْصُودُ بغَيْرِها تَمَامُها وإَلْغاءُ عَمَلِها في المُبْتَدَأ والخَبَرِ، وهو رَأيُ ابنِ الطَّرَاوَةِ ([190]).
وأَخَذَ أبو الحَسَنِ بنِ الباذِش برَأيِ الجُمْهُورِ، فإِنَّ (كَانَ) التي فيها الأمْرُ والشَّأنُ هي النَّاقِصَةُ، والجُمْلَةُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ، وقد نَقَلَ لنا رَأيَهُ في هذه المَسْألَةِ وَلَدُه أبُو جَعْفَر، قالَ ([191]): "قالَ أَبي: والصَّحِيحُ أَنَّ (كَانَ) المُضْمَرَ فيها الأمْرُ والشَّأنُ هي (كَانَ) النَّاقِصَةُ، والجُمْلةُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ، يَدُلُّ عَلى ذلكَ أَنَّ الأمْرَ والشَّأنَ يَكُونُ مُبْتدأ ومُضْمَراً في (إِنَّ) وأَخَواتِها و (ظَنَنْت) وأَخَواتِها والجُمْلةُ المُفَسِّرَةُ الوَاقِعَةُ مَوْقِعَ خَبَرِ هذه الأشْياءِ،ومَا ثبَتَ أنَّه خَبَرُ المُبْتَدأ، ولَمّا ذُكِرَ معه ثبَتَ أنَّه خَبَرٌ لِـ (كَانَ). انتهى ".
وأَرَى أَنَّ الأقْرَبَ إلى الصَّوَابِ في هذِه المَسْألةِ هو مَا ذَهَبَ إليه الشَّنْتَريني، فإنَّ مَا ذَهَبَ إليه الجُمْهُورُ يُنَاقِضُ المَعْنى، فإضْمَارُ الشأنِ في هذا المَوْضِعِ لا دَلالةَ عليه، فلا حَاجَة تَدْعُونا إلى إضْمَارِه،كَمَا أَنَّ في اخْتِيارِ الشَّنْتَريني بُعداً عَنْ التَكَلُّفِ.
العطف على اسم (أنّ)
لَنْ أَخُوضَ في الخِلافِ بَيْنَ النُّحَاةِ في مَسْألةِ العَطْفِ عَلى اسْمِ (إنَّ) وأَخَواتِها، فهذِه مَسْأَلةٌ طَويلةٌ أشبعَ البَحْثُ فيها، وهي مَوْجُودَةٌ في الكُتُبِ حَيثُ يَكادُ لا يَخْلو كِتابٌ مِنْ ذِكْرِها.
يَنْقُلُ ابنُ عَطِيَّةَ الأندَلُسيّ رَأْيَ أُسْتاذِه أبي الحَسَنِ بنِ الباذِش في إعْرابِ قَولِهِ تَعَالى:) أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنْ المُشْرِكينَ ورَسُوْلُه ({التوبة 3} فيقولُ ([192]): " ومَذْهَبُ الأسْتاذِ ـ يَعْني ابنَ الباذِش ـ عَلى مُقْتَضَى كَلامِ سِيْبَوَيْه أَنَّ لا مَوْضِعَ لِمَا دَخَلَتْ عَليه (أَنَّ) إذْ هو مُعْرَبٌ قد ظَهَرَ فيه عَمَلُ العَامِلِ، وأنَّه لا فَرْقَ بَيْنَ (أَنَّ) وبَيْنَ (لَيْتَ)،والإجْمَاعُ عَلى أَنْ لا مَوْضِعَ لِمَا دَخَلَتْ عليه هذه " هذا كَلامُ ابنِ عَطِيَّةَ نَقْلاً لمَذْهَبِ ابنِ الباذِش.
ويُفْهَمُ مِنْ هذا الكَلامِ أنَّ عَالِمَنا يَأْخُذُ برَأيِ سِيْبَوَيْه في عَدَمِ جَوَازِ العَطْفِ عَلى مَوْضِعِ اسْمِ (أَنَّ)، وأَنَّ مَا جَاءَ مِنْها مَرْفُوعَاً كَهذِه الآيةِ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الخَبَرِ، كَأَنَّهُ قالَ: (ورَسُولُه كَذلِكَ).
ورَفْعُه لا يَكُونُ إلاّ مِنْ ثلاثةِ أَوْجُهٍ: أَوَّلُهَا مَا ذَكَرْتُهُ مِنْ كَوْنِهِ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الخَبَرِ،وثانِيْها أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى الضَّمِيرِ المُسْتَتِرِ، والثالثِ العَطْفُ عَلى مَحَلِّ اسْمِ أَنَّ، وهذا مَا لمْ يُجِزْهُ سِيْبَوَيْه ([193]) وغَيْرُه مِنْ المُحَقِّقين، ويَرَوْنَ أَنَّ العَطْفَ في هذِه المَواضِعِ عَلى الجُمَلِ لا عَلى المُفْرَداتِ، أيْ: العَطْفُ عَلى جُمْلةِ (أَنَّ) واسْمِها وخَبَرِها لا عَلى اسْمِ (أَنَّ) ([194]).
¥