وأما الذين لعنوه من العلماء كأبي الفرج الجوزي، والكيا الهراسي وغيرهما، فلما صدر عنه من الأفعال التي تبيح لعنته، ثم قد يقولون: هو فاسق، وكل فاسق يلعن، وقد يقولون بلعن صاحب المعصية وإن لم يحكم بفسقة، ... وقد يلعن لخصوص ذنوبه الكبار، وإن كان لا يلعن سائر الفساق، كما لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنواعًا من أهل المعاصي، وأشخاصًا من العصاة وإن لم يلعن جميعهم فهذه ثلاثة مآخذ للعنته.
"الفتاوى" (4/ 297)
وأما الذين سوغوا محبته أو أحبوه، كالغزالي، والدستي فلهم مأخذان:
أحدهما: أنه مسلم ولي أمر الأمة على عهد الصحابة وتابعه بقاياهم، وكانت فيه خصال محمودة وكان متأولاً فيما ينكر عليه من أمر الحرة وغيره، فيقولون: هو مجتهد مخطيء، ويقولون: إن أهل الحرة هم نقضوا بيعته أولاً وأنكر ذلك عليهم ابن عمر وغيره، وأما قتل الحسين فلم يأمر به ولم يرض به، بل ظهر منه التألم لقتله، وذم من قتله، ولم يحمل الرأس إليه، وإنما حمل إلى ابن زياد.
والمأخذ الثاني: أنه قد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: [أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له].
وأول جيش غزاها كان أميره يزيد.
والتحقيق أن هذين القولين يسوغ فيهما الاجتهاد، وكذلك محبة من يعمل حسنات وسيئات، بل لا يتنافى عندنا -أي عند شيخ الإسلام- أن يجتمع في الرجل الحمد والذم، والثواب والعقاب، كذلك لا يتنافى أن يصلى عليه ويدعى له وأن يلعن ويشتم أيضًا باعتبار وجهين.
فإن أهل السنة متفقون على أن فساق أهل الملة وإن دخلوا النار، أو استحقوا دخولها فإنهم لا بد أن يدخلوا الجنة، فيجتمع فيهم الثواب والعقاب، ولكن الخوارج والمعتزلة تنكر ذلك، وترى أن من استحق الثواب لا يستحق العقاب ومن استحق العقاب لا يستحق الثواب.
" مجموع الفتاوى" (4/ 297)
وأما جواز الدعاء للرجل وعليه ... فإن موتى المسلمين يُصلي عليهم، برهم وفاجرهم، وإن لعن الفاجر مع ذلك بعينه أو بنوعه، لكن الحال الأول أوسط وأعدل، وبذلك أجاب ابن تيمية -رحمه الله- مقدم المغول بولاي، لما قدموا دمشق في الفتنة الكبيرة وجرت بينهما وبين غيره مخطابات، فسأل ابن تيمية: ما تقولون في يزيد؟ فقال: لا نسبه ولا نحبه، فإنه لم يكن رجلاً صالحًا فنحبه ونحن لا نسب أحدًا من المسلمين بعينه فقال أفلا تلعنونه؟ أما كان ظالمًا؟ أما قتل الحسين؟ فقلت له: نحن إذا ذكر الظالمون -كالحجاج بن يوسف وأمثاله- نقول كما قال الله في القرآن: (ألا لعنة الله على الظالمين) (هود، الآية: 18) ولا نحب أن نعلن أحد بعينه، وقد لعنه قوم من العلماء، وهذا مذهب يسوغ فيه الاجتهاد، لكن هذا القول أحب إلينا وأحسن وأما من قتل الحسين أو أعان على قتله، أو رضي بذلك، فعليه لعنة الله والملائكة والناس، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً. قال: فما تحبون أهل البيت؟ قلت محبتهم عندنا فرض واجب يؤجر عليه، فإنه قد ثبت عندنا في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بغدير يدعى خمّا، بين مكة والمدينة فقال: أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله. فذكر كتاب الله وحض عليه،، ثم قال: وعترتي أهل بيتي -في رواية أحمد في مسنده (4/ 367) -.
قال ابن تيمية لمقدم المغول: ونحن نقول في صلاتنا كل يوم: اللهم صلى على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد. قال مقدم المغول: فمن يبغض أهل البيت؟ قال: من أبغضهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً.
ثم قال ابن تيمية للوزير المغولي: لأي شيء قال عن يزيد وهذا تتريٌّ؟ قال: قد قالوا له: إن أهل دمشق نواصب، قال ابن تيمية بصوت عال: يكذب الذي قال هذا، ومن قال هذا، فعليه لعنة الله، والله ما في أهل دمشق نواصب، وما علمت فيهم ناصبيًا ولو تنقص أحد عليًا بدمشق لقام المسلمون عليه.
"الفتاوى" (4/ 297، 298)
وعلينا أن نعرف أن لعن يزيد لم ينتشر إلا بعد أن قامت الدولة العباسية وأفسحت المجال للنيل من بني أمية.
انظر: " مواقف المعارضة" صـ501
وأما الحديث الذي ورد مرفوعًا: [لا يزال أمر أمتي قائمًا، حتى يثلمه رجل من بني أمية يقال له: يزيد].
¥