مناهج الكتابة في السِّيرة النَّبَويَّة
ـ[محمد عامر ياسين]ــــــــ[30 - 05 - 07, 07:54 ص]ـ
مناهج الكتابة في السِّيرة النَّبَويَّة
اختلفت منهجية المُؤلِّفين في السيرة, لأسباب متعددة, منها غلبة فن من الفنون على العالم أو الكاتب في السيرة فمثلاً أغلب المحدِّثين والحفاظ الذين كتبوا في السيرة كتبوا بمنهجية أهل الحديث , وبعضهم حاكم السيرة كما يحكم على الأحاديث في الأحكام والعقائد , وبعضهم غلب عليه الفقه أو العربية أو غيرها من العلوم والفنون , فتساهل في محاكمة نصوص السيرة, ونحن –هنا- سنعرض لهذه المنهجيات المختلفة, ونذكر بعضها محاولين الوصول إلى بيان المنهجية التي يترجح العمل بها ومحاكمة نصوص السيرة بناءً عليها, فنقول مستعينين بالله-عز وجل-:
أولاً منهجية المحدِّثين:
والمحدِّثون هم مَن التزم بقواعدِ التحديثِ في كتابةِ السِّيرةِ النَّبَويَّةِ، و تظهرُ التجزئةُ للأحداثِ في كتاباتِ المحدِّثين الذين التزمُوا بقواعدِ الرِّواية وتمييز الأسانيدِ عن بعضِها، وربما قطَّعوا الرِّوايةَ الواحدةَ, فخرَّجُوا بعضَها في مكانٍ وبقيَّتَها في مكانٍ آخرَ تبعاً لموضوعاتِ (تراجم) مؤلَّفاتهم، كما يظهرُ ذلكَ جَلياً في قِسم (المغازي) الذي كتبَهُ الإمامُ البُخاريُّ-رحمه الله- ضمن صحيحِهِ، ويظهر بصورةٍ أخفَّ في صحيحِ الإمامِ مُسلمٍ-رحمه الله- بسبب عنايتِهِ الخاصَّةِ بسردِ المتُونِ الطَّويلةِ وتحريرِ ألفاظِها؛ لأنَّهُ أقلُّ عنايةٍ من البُخاريِّ بتقطيعِ الرِّوايةِ حسب تراجمِ كتابِهِ1.
ومنهم (المحدِّثين) مَن التزم الصِّحَّة في رواياتِهِ وأحاديثِهِ كالبُخاريِّ ومسلمٍ، ومنهم مَن أسند ولم يلتزمِ الصِّحَّةَ وهم السَّوادُ الأعظمُ من المحدِّثين والمُؤرِّخينَ.
ولاشكَّ أنَّ للإسنادِ عند المسلمينَ شَأْناً كبيراً ومكاناً خطيراً؛فبه يُعرف حالُ الرَّاوي والرِّواية, وبه تقوم الحُجَّةُ بأحكام الشريعة وتفصيلاتها؛ وكان أول مَن أدرك قيمةَ هذا الأمرِ وخطورتَهُ الصَّحابة أنفسُهم؛فتثبَّتوا في الرِّوايةِ وقبولِها، ولكنْ لغلبةِ التَّقوى والوَرَعِ عليهم وانعدامِ الكَذِبِ في تلكَ الأيَّامِ لم يكنْ أحدُهم يتهمُ الآخرَ بالكذبِ أو الزِّيادةِ في الحديثِ. وما وقع منهم مِن خطأ, فإنَّما كانَ من باب الخطأ الذي لا يكاد يسلمُ منه أحدٌ، باعتبارِه مجتمع الصَّحابة الذي كان يسودُهُ الصِّدقُ والأمانةُ، فكانَ الأمرُ لا يحتاجُ إلى البحثِ في عدالةِ الرَّاوي, إذِ الصَّحابةُ كلُّهم عُدُولٌ فيما يروونه وينقلونه عن النَّبيِّ - صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-.
واستمرَّ هذا حالهُم مع السُّنَّةِ حتَّى وقعتِ الأحداثُ الأليمةُ التي كان من نتائجِها أنْ قُتل الإمامانِ: عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وغيرهما من الصَّحابة -رضي الله عنهم-.
وظهرتِ الفِرقُ المنحرفةُ2 التي أعطتْ لنفسِها حقَّ تفسيرِ النُّصوصِ من الكتاب والسنة بما يتوافقُ مع آرائِها وأهوائِها، ولمَّا أعيا البعضَ ذلكَ عمدُوا إلى وضعِ الحديثِ على النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- لتقويةِ مذاهبِهم وبدعِهم.
عندئذٍ قام الصَّحابةُ -رضي الله عنهم- بواجبِهم في الدِّفاعِ عن السُّنَّةِ فلم يعودُوا يقبلونَ الحديثَ من كلِّ أحدٍ، بلْ أصبحُوا يعتنونَ بالنَّظرِ في حالِ الرَّاوي. قالَ ابنُ سِيرين: لم يكونُوا يسألونَ عن الإسنادِ، فلمَّا وقعتِ الفِتنةُ, قالُوا: سَمُّوا لنا رجالَكُم، فيُنظر إلى أهلِ السُّنَّةِ فيُؤخذُ حديثُهم، ويُنظرُ إلى أهلِ البِدَعِ فلا يُؤخذُ حديثُهم".
وهذا المنهج أعمُّ مِن أنْ يكونَ مُتعلِّقاً بأحاديثِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-؛ بل هو منهجٌ لكلِّ قولٍ أو فعلٍ له خَطَرُهُ وأهميَّتُهُ في حياةِ المسلمينَ3.
ولقدْ سارَ المُؤلِّفون على ذلك المنهجِ – منهج الإسناد – ولكن منهم مَن التزم الصِّحَّة في كلِّ ما يرويه- كما ذكرنا- كالبُخاريِّ ومسلمٍ، ومنهم مَن لم يلتزمْ الصِّحَّةَ كغيرِهم من المحدِّثين.
¥