[المصادر التاريخية لجزيرة العرب في النصوص الجغرافية الإيرانية القديمة]
ـ[محمد أبو عمر]ــــــــ[06 - 08 - 07, 06:57 ص]ـ
المقدمة
حُبّ الحجاز كان منذ ظهور الإسلام حافزًا للمسلمين بجميع طوائفهم وأعراقهم لرسم صورة جغرافية لها في أذهانهم، وصار هذا فيما بعد مصبًّا لمحاولات شتى للتعرف على جغرافية هذه الديار من قِبَل علماء وباحثين في أنحاء مختلفة من العالم الإسلامي.
ولم يتخلّف الإيرانيون، وبشكل أشمل الناطقون باللغة الفارسية، عن هذا الرَّكب؛ حيث كانت ولا تزال لغتهم تمثّل اللغة الثانية في العالم الإسلامي بعد اللغة العربية؛ فقد كانت لديهم محاولات في مجالات أدب وتاريخ الحرمين والبلاد التي كانوا يسمّونها آنذاك بديار العرب.
والمحفّز الوحيد لهذه المحاولات هي العلاقة الدينية والعاطفية مع الحرمين. وهذا الجوّ أوجد فيهم دافع التعرف على ديار العرب لتمهّد الأرضية لمعرفة الحجاز بنحو خاصّ في النصوص الجغرافية والتاريخية لدى الإيرانيين.
ولابدّ هنا من الإشارة إلى أمور ثلاثة:
الأوّل: إنّ المصنّفات الجغرافية في العالم الإسلامي تارة دوّنت على أيدي مؤلفين ذوي أصول فارسية وأخرى على أيدي الساكنين في المنطقة المركزية العربية، وثالثة بيد مؤلفي المغرب الإسلامي. فمثلاً أبو زيد البلخي (الذي ولد في حدود 235هـ وكان حيًّا إلى حوالي 308هـ) وأبو إسحاق الفارسي الإصطخري (الذي ألّف كتاب "المسالك والممالك" حوالي 318 - 321هـ) وأبو عبدالله الجيهاني والمؤلف المجهول لكتاب "حدود العالم" (والذي يحتمل أنه كان من أهالي جوزجان، وألّفه حوالي 372هـ) كانوا من أصول إيرانية.
وأمثال ابن واضح اليعقوبي، مؤلف كتاب "البلدان"، وابن حوقل، مؤلف "صورة الأرض" الذي ألّفه في أواسط القرن الرابع، والمسعودي وقدامة بن جعفر كانوا من المنطقة المركزية العربية. وأمّا المقدسي صاحب الكتاب القيّم "أحسن التقاسيم" فقد كان من المغرب الإسلامي**.
إذن كان تطوّر علم الجغرافيا الإسلامية هو نتاج جمع من الباحثين في أنحاء العالم الإسلامي من الشرق حتى الغرب.
الثاني: أنّ الآثار الكلاسيكية تبدأ من كتابات البلخي والإصطخري وتنتهي عند الكتاب الثمين "أحسن التقاسيم" للمقدسي الذي هو نتاج عهد طويل من الكتابات الجغرافية. ثم من بعد ذلك وجدت صور أخرى لعلم الجغرافيا ولكن لا يمكن عدّها من الآثار الكلاسيكية لعلم الجغرافيا، ويمكن احتساب التواريخ المحلية التي يحتوي قسم كبير منها على معلومات جغرافية من هذا المضمار، وهكذا الرحلات. وجدير بالذِّكْر أنّ علمَ الجغرافيا نشأ مِن عِلم المنازل لسير الطرق (البريد أو الحج) ثم استقلّ شيئًا فشيئًا.
الثالث: كثير من المصادر الجغرافية القديمة كانت من تأليف علماء ذوي أصول إيرانية سواء بالعربية أو الفارسية، حتى إنّ بعضها التي كانت بالعربية ترجم إلى الفارسية في تلك الأيام. هذا الامتزاج جعل ليس من الواضح من الناحية التاريخية إن كان تأليف كتاب "المسالك والممالك" للإصطخري مثلاً باللغة العربية ثم ترجم إلى الفارسية أو أنّ الأمر عكس ذلك.
["تاريخ الأدب الجغرافي عند العرب"، كراتشكوفسكي، ترجمة صلاح الدين عثمان بن هاشم، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1987/ 1408، ص216].
ونضيف إلى تدوين بعض النصوص العربية المتعلقة بالحجاز أو بجزيرة العرب تمّ في إيران أو حتى لقرون عديدة تمت المحافظة على النسخ المهمّة لهذه الحقبة التاريخية في مكتبات إيران. على سبيل المثال أنّ النسخة الوحيدة لكتاب "المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة" المنسوب إلى الإمام أبي القاسم الحربي من علماء القرن الثالث الهجري كانت موجودة في مكتبة مشهد الرضوي، وقد طبع هذا الكتاب علاّمة جزيرة العرب الأستاذ حمد الجاسر في سنة 1969م/1389هـ. ويعدّ هذا الكتاب من أعظم الآثار الجغرافية حول جزيرة العرب وطرق الحج.
وجدير بالذكر أنّ أبا القاسم الحربي في الأصل كان منسوبًا إلى (مرو الروذ) من بلاد خراسان، حيث هاجر عدد من المراوزة إلى بغداد فسكنوا في محلة الحربية (باب الحرب) فكان من ضمنهم هذا العالم الجليل؛ ولهذا السبب اشتهر بالحربي.
¥