فقد عشنا مرحلة جميلة في بداية التّعليم الجامعيّ الأولى، مع أساتذة كرامٍ؛ وبعضهم بين بين، وآخرين دون الدّون؛ كما حال الأمّة كلّها.
وسامحوني إذ أذكر شيخي الحبيب نوفل دوماً.
فقد درست معه مادّة الثّقافة الإسلاميّة، وحضرتها معه كلّما وجدت فرصة سانحة لا تتعارض مع محاضراتي، وكانت امتحاناته سؤالين اثنين أو ثلاثة. اختر واحداً منهما أو اثنين، وهذا الواحد تؤلّف فيه كتاباً. أنت واجتهادك.
وكان المقرّر في المادّة: ثلاثة كتب، في كلّ كتاب امتحان، وكان الامتحان النّهائيّ كتاب واقعنا المعاصر للأستاذ الكبير محمّد قطب حفظه الله وبارك فيه. الّذي لا بدّ لكلّ طالب علم أن يقرأه فهو سفر في بابه.
ولم يكن -فضيلته- يشرح أيّاً من هذه الكتب المقرّرة في محاضراته؛ بل يطوّف بنا في كتب مالك بن نبي -رحمه الله تعالى- الّذي حرصنا على شراء كلّ كتبه المترجمة، وقراءتها بمتعة.
فكنت أكتب في الامتحان من كلّ قطر أغنية، ومن ضمنها مثلاً مقولة الشّيخ عبد الحميد كشك -رحمه الله تعالى-في عادل إمام.
ما دام عندنا عادل إمام فلا نحتاج إلى إمام عادل. وأمثال هذا لي ولغيري من زملائي الأحبّة.
فكنت أفرح فرحاً غامراً عندما يذكر في القاعة هذا المثل ويعزوه إلى من ذكره، وأتعجّب كيف يجد الوقت لقراءة أعداد مهولة يمتلئ بها مدرج كلّيّة الشّريعة آنذاك، والواقفون أكثر من الجالسين. ويعلّق على ورقتي كاملة -حين تصحيحها- وما زلت أحتفظ بها حتّى اليوم على تباعد كبير في الزّمن. ويَعْلَقُ بذاكرته ما يقرأ ثمّ لا يجد غضاضة في نسبة القول إلى قائله. ولو فعله من يلومه؟!
(فأكيد الدّكتور بيعرف كلّ حاجة)!!!
ودكتور "محترم آخر محترم جدّاً" كان يختار أربعة من الطّلاب المبدعين ولم أكن منهم، فيكلّف كلّ واحد منهم بكتابة بحث لا علاقة له بالمادّة المقرّرة.
فإذا ما كتبوا أبحاثهم ناداهم ووضع المصحف بين أيديهم ليقسموا أنّ ما نقلوه كان من جهدهم من غير سرقة. فيقسمون له وهم صادقون فيما نحسب. ويضع لهم درجة كاملة على البحث. فيفاجأ هؤلاء الطّلبة بأبحاثهم مجمّعة في كتاب لفضيلة الأستاذ الدّكتور فلان بن فلان بن فلان قد صدر في دار كذا للنّشر والتّوزيع.
أيّة ثقة سيثق بها هؤلاء في أساتذة يحملون مشعل الهداية للأمّة أو هكذا يظنّون.
وفي الجعبة قصص وحكايا عن سرقات على مستوى ((القمّة)) لا يسمح أستاذ مشرف على رسالة طالب أن يوجّهه لكتابة بحثه في الدّراسات العليا حتّى يكتب له بحثاً أوّلاً ثمّ بعد ذلك يشرف على بحثه!
وقد فاز هذا الأستاذ الجامعيّ العالم الكبير النّحرير بإحدى جوائز خدمة القرآن الكريم في دولة عربيّة ما!
جزاكما الله خيراً مرّة أخرى، وجعلكما قدوة للأساتذة الكرام الّذين ولا شكّ تمتلئ بهم الأمّة.
فهذه نماذج ستندثر مع صحوة الأمّة، واستيقاظ الإيمان في نفوسها، وصناعة البيئة الإيمانيّة الجاذبة؛ لنصل إلى سؤال امرأة للإمام أحمد -رحمه الله- قائلة له:
يا إمام! إنّي امرأة تحيك الملابس على ضوء القمر، وإنّ العسس ليمرّون بنا باللّيل؛ أفيجوز لي أن أحيك الملابس على تلك السّرج؟
فسألها الإمام أحمد -رحمه الله-: ابنة من أنت؟
قالت: ابنة فلان -وهو مشهور بالزّهد والورع-، فقال لها: أمّا أنتم أهل البيت فلا أجيز لكم فمن بيتكم خرج الورع!
الله الله الله.
سؤال وإجابة تكتبان بماء العيون الخاشعة.
آتانا الله ما آتاهم من نعم العلم والورع والزّهد والصّدق وصفات الكمال البشريّ.