[حكام يشجعون القراءات – 3 – 4: (الموفق مجاهد العامري، وابنه إقبال الدولة)]
ـ[أحمد كوري]ــــــــ[29 Jul 2010, 03:04 ص]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الموفق أبو الجيش مجاهد بن عبد الله العامري (ت: 436هـ): كان مولى للناصر عبد الرحمن بن المنصور محمد بن أبي عامر الأندلسي. والمنصور هو الحاجب الذي استولى على السلطة الحقيقية في آخر عهد الدولة الأموية بالأندلس، ولم يترك لخلفائها إلا سلطة اسمية رمزية، وقد تولى مكان المنصور ابنه الناصر عبد الرحمن، ثم سقطت الدولة الأموية نهائيا وشبت الفتنة في جميع أرجاء الأندلس، وتقاسمها ملوك الطوائف؛ فكان منهم مجاهد العامري الذي استولى على دانية وجزائر شرق الأندلس. وكان مشهورا بالفضل والكرم والشجاعة والعلم، ومحبة العلماء وتعظيمهم وتقريبهم وإجراء الرواتب عليهم حتى يتفرغوا للتعليم والبحث والتأليف، وكان حريصا على استجلابهم من الآفاق إلى عاصمته دانية، فمدحه الشعراء وأثنى عليه العلماء، وكان هو نفسه عالما أديبا، ألف كتابا جليلا في العروض. ومن مناقب مجاهد أنه وقف على كتاب "تنقيح العين" في اللغة لأبي غالب تمام بن غالب اللغوي الأندلسي المعروف بابن التياني، فأعجب الأمير بالكتاب وبعث إلى مؤلفه أبي غالب ألف دينار أندلسية على أن يزيد في ترجمة هذا الكتاب: "من ما ألفه تمام بن غالب لأبي الجيش مجاهد"، فرد له أبو غالب الدنانير ولم يفعل، وقال: "والله لو بذل لي ملك الدنيا ما فعلت، ولا استجزت الكذب، فإني لم أجمعه له خاصة، لكن لكل طالب علم عامة". قال الحميدي: "فاعجب لهمة هذا الرئيس وعلوها، واعجب لنفس هذا العالم ونزاهتها"!! ومن مناقب مجاهد أيضا أنه فتح جزيرة سردانية في البحر الأبيض المتوسط، سنة: 406هـ.
ومن العلماء الذين عاشوا في ظلاله: إمام اللغويين علي بن أحمد بن إسماعيل المعروف بابن سيده صاحب "المحكم" وهو المعجم الذي لم يؤلف مثله في اللغة، وقد ألفه للأمير مجاهد، ومنهم الإمام صاعد بن الحسن البغدادي صاحب كتاب "الفصوص" في اللغة، ووزر له الفقيه الأديب القاضي أبو العباس أحمد بن رشيق الأندلسي.
إذا كان الموفق مجاهد العامري مشهورا بتشجيع العلم والعلماء، فإنه كان يهتم اهتماما خاصا بنشر علم القراءات وتشجيع المقرئين؛ فاستجلبهم من الآفاق، وأفاض عليهم الرواتب والأرزاق، وفرغ الأساتذة والطلاب لرواية ودراية هذا العلم الشريف، حتى صارت دانية "معدن القراءات بالغرب"، وصار أهلها أقرأ أهل الأندلس، حسب تعبير ياقوت، وأصبحت مثابة لطلاب هذا العلم من جميع الآفاق. والسبب في ذلك أن الموفق مجاهدا نفسه كان إماما من أئمة القراءات؛ فقد عني مولاه منذ صغره بتحفيظه القرآن وتعليمه القراءات على يد كبار مقرئي عصره، كما يقول ابن خلدون في المقدمة: "ولم يزل القراء يتداولون هذه القراءات وروايتها إلى أن كتبت العلوم ودونت فكتبت في ما كتب من العلوم، وصارت صناعة مخصوصة وعلما منفردا، وتناقله الناس بالمشرق والأندلس في جيل بعد جيل، إلى أن ملك بشرق الأندلس مجاهد من موالي العامريين، وكان معتنيا بهذا الفن من بين فنون القرآن، لما أخذه به مولاه المنصور بن أبي عامر، واجتهد في تعليمه وعرضه على من كان من أئمة القراء بحضرته، فكان سهمه في ذلك وافرا. واختص مجاهد بعد ذلك بإمارة دانية والجزائر الشرقية، فنفقت بها سوق القراءة، لما كان هو من أئمتها، وبما كان له من العناية بسائر العلوم عموما وبالقراءات خصوصا؛ فظهر لعهده أبو عمرو الداني وبلغ الغاية فيها، ووقفت عليه معرفتها، وانتهت إلى روايته أسانيدها، واعتمدت تآليفه فيها، وعول الناس عليها وعدلوا عن غيرها، واعتمدوا من بينها كتاب التيسير له". ويقول ابن سعيد في المغرب في حلى المغرب: "وكان محبا في العلماء محسنا لهم، كثير التولع بالمقرئين للكتاب العزيز، حتى عرف بذلك بلده، وقصد من كل مكان، وشكر في الأقطار بكل لسان"، ويقول ياقوت في ترجمة مجاهد في معجم الأدباء: "وكان من الكرماء، على العلماء، يبذل لهم الرغائب خصوصا على القراء، حتى صارت دانية معدن القراء بالغرب"، ويقول عن دانية في معجم البلدان: "وكانت قاعدة ملك أبي الجيش مجاهد العامري، وأهلها أقرأ أهل الأندلس؛ لأن مجاهدا كان يستجلب القراء ويفضل عليهم وينفق عليهم الأموال؛ فكانوا يقصدونه ويقيمون عنده فكثروا في بلاده. ومنها شيخ القراء أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني صاحب التصانيف في القراءات والقرآن".
تولى السلطة بعد مجاهد ابنه إقبال الدولة علي فسار سيرة أبيه في الفضل ومحبة العلماء وتقريبهم واستجلابهم من الآفاق، كما يقول عنه المراكشي في المعجب: "لا أعلم في المتغلبين على جهات الأندلس أصون منه نفسا، ولا أطهر عرضا، ولا أنقى ساحة، كان لا يشرب الخمر ولا يقرب من يشربها، وكان مؤثرا للعلوم الشرعية مكرما لأهلها".
استوطن الإمام الداني دانية سنة: 417هـ، وعاش في كنف الموفق مجاهد في غاية الإجلال والإكبار، ثم في كنف ابنه إقبال الدولة علي، وكان من ثمرة استقرار الداني في دانية في ظل هذين الأميرين الجليلين تأليفه لكتبه الكثيرة الشهيرة التي أصبحت عمدة المقرئين في القراءات والتجويد والرسم والضبط وعد الآي، ولما توفي سنة: 444هـ، حضر الأمير إقبال الدولة جنازته ومشى أمام نعشه.
ثم تولى السلطة بعد إقبال الدولة ابنه أبو عامر، ويقول عنه ابن الأثير في الكامل: "ولم يكن مثل أبيه وجده".
من المؤسف حقا أن لا يكون الحفيد في مستوى الأب والجد. فرحم الله الجد والأب، ورحم الحفيد أيضا.
المراجع:
بغية الملتمس في تاريخ رجال الأندلس: لابن عميرة.
جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس: للحميدي.
غاية النهاية في طبقات القراء: لابن الجزري.
الكامل في التاريخ: لابن الأثير.
المعجب في تلخيص أخبار المغرب: للمراكشي.
معجم الأدباء: لياقوت الحموي.
معجم البلدان: لياقوت الحموي.
المغرب في حلى المغرب: لابن سعيد المغربي.
المقدمة: لابن خلدون.