وأما كلمة ابن حبان الشديدة، فمعروفٌ أنه يطلق هذه الإطلاقات -أحيانًا- مع أن الضعف الواقع يسير، وأطلق عليه الذهبي لذلك -في الميزان (2/ 148)، وانظر: السير (10/ 267)، والميزان (4/ 8) -: " خسّاف قصّاب "، ويبدو أنه استفاد التضعيف من ابن معين، حيث أسند كلامه بعقبه، وإن كان قد ذكر ابن بديل في الثقات أيضًا.
ومتابعة الحسن بن أبي جعفر لابن بديل عن أبيه في حديث " أهل القرآن " أخرجها الدارمي في سننه، عن مسلم بن إبراهيم -وهو ثقة حافظ-، عن الحسن.
والحسن ضعفه أهل العلم، وبعضهم تركه، إلا أن عبد الرحمن بن مهدي -وسبق شيءٌ من منهجه في الرجال- حدث عنه في أحاديث الرقاق -كما في تهذيب الكمال (6/ 76) -، ولعله يُستفاد من ذلك أنه يُعتبر به في أحاديث الفضائل والرقائق ونحوها، وحديثنا هذا منها.
فالحكم بتفرد ابن بديل عن أبيه فيه نظر.
ولو صح تفرده، فليس كلُّ تفردٍ مردودًا، وليس من منهج الأئمة المتقدمين -البتة- إعلالُ كلِّ تفرد، وصورة التفرد الواقعة هنا ليست مما يوجب الرد.
وما زال الأئمة يتخففون في أحاديث الفضائل ولا يشددون فيها.
ولم أجد من أهل العلم من أعلّ الحديث، وإن كان سوق ابن معين الحديثَ في سياق تضعيف ابن بديل يشير إلى استنكاره عليه وتضعيفه به، فالله أعلم.
فائدة واستطراد:
هذا، وقد روى الحديث محمد بن عبد الرحمن بن غزوان عن مالك عن الزهري عن أنس به، قال الدارقطني -كما في تاريخ بغداد (2/ 311) -: " تفرد به ابن غزوان، وكان كذابًا، فلا يصح عن مالك، ولا عن الزهري، وإنما يُروى هكذا عن بديل بن ميسرة عن أنس "، وقال أبو نعيم الأصبهاني -في الحلية (10/ 3) -: " غريب من حديث مالك، تفرد به محمد بن عبد الرحمن بن غزوان "، وقال الخليلي -كما في المنتخب من الإرشاد (1/ 169) -: " فأما من الأفراد الذي يتفرد به ضعيف وَضَعَهُ على الأئمة والحفاظ؛ فهو كما حدثنا به ... " ثم أسند هذه الرواية، ثم قال: " وهذا منكر بهذا الإسناد، ما له أصل من حديث ابن شهاب، ولا من حديث مالك، والحمل فيه على ابن غزوان، وإنما رواه أبو داود الطيالسي عن شيخ من أهل البصرة عن أبيه عن أنس "، وقال -كما في منتخب الإرشاد (1/ 406) -: " منكر موضوع من حديث مالك وحديث الزهري، لم يروه غير ابن غزوان، وهو ضعيف، له مثل هذا وغيره، وإنما الحديث يعرف من حديث عبد الله بن بديل -كذا- عن أنس ".
ونقل الشيخ الألباني -في السلسلة الضعيفة (4/ 84) - عن السيوطي قوله -في الجامع الكبير-: " أخرجه الخطيب في «رواة مالك» من طريق محمد بن بزيع المدني عن مالك عن الزهري عن أنس -رضي الله عنه-، وقال: «ابن بزيع مجهول»، وقال في «الميزان»: «هو خبر باطل» "،
ثم قال -أي: الألباني-: " لكني قد وجدت لابن بزيع متابعًا "، ثم ذكر رواية محمد بن عبد الرحمن بن غزوان، ونقل كلام الدارقطني المذكور آنفًا في تفرده به عن مالك، ثم قال: " وفات الدارقطني متابعة ابن بزيع ".
وظاهرٌ مما سبق أنَّ الدارقطني لم ينفرد بالحكم بتفرد ابن غزوان بالحديث عن مالك، بل وافقه عليه إمامان آخران، وأنَّ الخطيب -الذي نقل كلام الدارقطني- لم يتعقب الدارقطني بما قال، مع أنه هو الذي أخرج رواية ابن بزيع التي يردُّ بها الشيخُ الألباني حكمَ الدارقطني بالتفرد.
ولم يوقَف على إسناد الخطيب في رواة مالك، إلا أن غالب الظن أن المتابعة لا تصح عن ابن بزيع راويها، ويدل لذلك ما سبق من اتفاق ثلاثة من الأئمة على الحكم بالتفرد، والأئمة إذا حكموا على حديثٍ بالتفرد، وعُلم أنهم وقفوا على رواية أخرى صورتها متابعةٌ للراوي المحكومِ بتفرده، فالظاهر أنهم لا يرون صحتها عن المتابِع، حيث لا يصح عنه أنه روى هذا الحديث أصلاً؛ حتى يُحكم بأنه تابع الراوي الآخر.
وحُكم الإمام أبي نعيم الأصبهاني المنقول آنفًا مِن أظهَرِ شيءٍ على ذلك؛ فإنه عقّب به روايةً صورتها متابعة لمحمد بن عبد الرحمن بن غزوان (ولم يقف عليها الشيخ الألباني)، إلا أن أبا نعيم لم يلتفت إليها؛ لعدم صحة إسنادها إلى راويها.
فإنه قد قال: (حدثنا أبو سعيد الحسين بن محمد بن علي، ثنا أبو سعيد الحسن بن أحمد بن المبارك، ثنا أبو جعفر أحمد بن صبيح بن رسلان الفيومي بمكة، ثنا أبو الفيض ذو النون بن إبراهيم المصري، ثنا مالك بن أنس، عن الزهري، عن أنس، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " إن لله -عز وجل- أحبة من خلقه "، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: " أهل القرآن هم أهل الله وخاصته ". غريب من حديث مالك، تفرد به محمد بن عبد الرحمن بن غزوان: حدثنا مالك بن أنس، مثله).
فهذه صورةُ متابعةٍ لابن غزوان عن مالك، تابعه فيها: ذو النون بن إبراهيم المصري، وقد قال الدارقطني فيه -كما في تاريخ بغداد (8/ 393) -: " إذا صح السند إليه فأحاديثه مستقيمة، وهو ثقة ".
إلا أن الدارقطني نفسه قال -كما في الموضع نفسه من تاريخ بغداد-: " رُوي عنه عن مالك أحاديث في أسانيدها نظر "، وقال الخطيب: " وقد أُسند عنه أحاديث غير ثابتة، والحمل فيها على من دونه ".
فأشارا إلى أن روايات ذي النون عن مالك فيها نظر، والسبب في الرواة دونه، لا فيه.
وهذا متحقق في هذه المتابعة، فإن في إسنادها: الحسن بن أحمد بن المبارك، قال الدارقطني -كما في لسان الميزان (2/ 193) -: " ضعيف جدًّا، كان يتهم بوضع الحديث "، وذكر له رواياتٍ من طريق مالك باطلةً ومنكرة، وقال الخطيب -كما في الميزان (1/ 480) -: " صاحب مناكير ".
وهذا يبين أن ذا النون المصري لم يروِ هذا الحديث عن مالك أصلاً (إذ لم يثبت السند إليه)؛ فلا يصح أن يعتبر متابعًا لابن غزوان عنه، ولأجل هذا حَكَم أبو نعيم بتفرد ابن غزوان بالحديث مع وقوفه على هذه الرواية.
ولهذا؛ فالظاهر -كما سبق- أن متابعة ابن بزيع لا تصح عنه -كما لم تصح متابعة ذي النون-، واللهُ يُيسرُ الوقوف على كتاب الخطيب (رواة مالك)، للنظر في إسناد رواية ابن بزيع هذا.
وللرشيد العطار مختصرٌ لكتاب الخطيب، ويذكر في بعض تراجمه بعض الأحاديث، إلا أنه ذكر اسم ابن بزيع مجردًا، والله المستعان.
¥