إضافة إلى هذا فقد كان من أهل الصُّفَّة، وهؤلاء قد كانوا متفرغين كليًا للعلم والعبادة، ومن ثم كانوا من أبرز الرواة بين الصحابة الآخرين الكبار، وكذلك قد شهد رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي هريرة بسبقه وحرصه على رواية الحديث عنه، فكان يُمده بكل ما هو ضروري في الدين ليبلغه لمن لم يشهده عنده؛ كما أورد البخاري في صحيحه "باب الحرص على الحديث" عن أبي هريرة أنه قال: قلت يا رسول الله من أسعدُ الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد ظننتُ يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة: من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه" [صحيح البخاري - كتاب العلم].
فصفة الحرص طبيعيًا قد تؤدي دائما إلى كثرة الجمع والتخزين، شأن الحريص على جمع المال والاجتهاد في اكتشاف طرقه.
5) هذه المبادئ قد تؤسس للتخصص في رواية الحديث سواء لدى الرجال أو النساء كما هو شأن السيدة عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- وذلك لأنها كانت أكثرَ نساء النبي ملازمة له ومن أفقههن، ومن ثم كان صغرُ سنها في زواجها به صلى الله عليه وسلم إيذانًا بتحقيق هذه الغاية، ألا وهي تمام التَّذكار ودقته، وطول أمده والحرص على تحصيل المعارف؛ وخاصة في سن التاسعة من العمر، بحيث ستكون أكثر نساء النبي عشرة له وستبقى بعده مدة طويلة كي يتسنى لها نشرُ أحاديثه وإفادة السائلين عن قضايا الطهارة وشؤون المنزل والأسرة والعلاقة بين الزوجين.
هذه الروايات كانت تدخل من باب بيان أحكام الشرع في تلك العلاقة، وليس نشر الأسرار الزوجية، كما قد يحلو لبعض الزنادقة ومريضي القلوب تأويلُه به لكي يجعلوا منه ذريعةً لرفض الأحاديث الواردة في الموضوع.
ولهذا فزواجه صلى الله عليه وسلم بها لم يكن زواج شهوة، وإنما كان -كما جاءت الروايات- اختيارًا إلهيا رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام وسلم به، وما دخوله بها في سن التاسعة إلا من هذا الباب، وهو ثابت بالروايات الصحيحة، ومن خصوصياته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو المشرع؛ كما قد أباح له الزواج بأكثر من أربع نسوة.
من ثم فالطعنُ فيه زندقة ومروق، وذلك لأن المشرع هو الذي يحدد ما هو حلال وما هو حرام وما هو معقول وغير معقول، في حين إن البيئة قد تختلف من حيث تحديد سن الزواج وقيمة وخصائص المتزوجين جسديًا ونفسيًا.
فالمتزوج هنا هو النبي! وشتان بينه وبين سائر البشر! إذا قسنا المسألة بالسن أو بالشخص، كما أن السيدة عائشة حكمها حكم أمهات المؤمنين، أي لها طابع روحي قبل أن يكون جسديا، ومن هنا فهيهات هيهات التساوي بين الملائكة والحدادين! كما يقول أبو حامد الغزالي -رحمه الله تعالى-.
هذا المعنى قد أوردناه بنوع تفصيل في كتابنا المتواضع "أحكام النسب لحماية الأسرة في الإسلام"؛ فحددنا مفهومَ المشروعية وحق التشريع من عهد آدم عليه السلام إلى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وذلك في تناولنا لمسألة أبناء وبنات آدم وزواجهم، وأثبتنا أن الزواج كان شرعيًا وليس خطيئة، كما يريد أن يوهم بذلك بعضُ الزنادقة والمتفلسفة لتسويغ الفساد في الأرض ودون الوعي بعلاقة التشريع بالمسار الكوني والتحول البيولوجي للكائنات الحية وخاصة الإنسان، وأيضا بالميل نحو إشاعة الفاحشة وإثارة الشكوك في الأنساب الأصلية للبشرية ومن ثم قطع كل متصل وإهدار للقيم وما معها من تفاصيل.
هكذا قد يتسلسل بهم فكرُهم الفاسدُ إلى أن يحاولوا قطعَ صلة الصحابي بالنبي، وهي مقدمة ماكرة لقطع الصلة بالدين وهدمه من جذوره، ولكن هيهات هيهات! فالعلمُ أقوى من الوهم الفاسد، والسندُ المتصل أقوى من بيت العنكبوت الواهي.
ثانيا: النصوص الحديثية وتوسيع دائرة العقل
¥