فيقول معترضا على المحدثين في روايتهم حول تمييز حكم الطهارة عند الكلب عن الهر: "لقد قدمتم السنور (الهر) على الكلب، ورويتم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بقتل الكلاب واستحياء السنانير، وتقريبها وتربيتها، وأنه قال: إنها من الطوافات عليكم، مع أن كل منفعة السنور هي أكل الفأر فقط ... ومنافع الكلب لا تحصيها الطوامير، ثم السنور مع ذلك يأكل الأوزاغ والعقارب والخنافيس والحيات وكل خبيثة وكل ذي سم، وكل شيء تعافه النفس، ثم قلتم في سؤر السنور وسؤر الكلب ما قلتم، ثم لم ترضوا به حتى أضفتموه إلى نبيكم ... " [ج3 ص87].
أولم يصدق القائل:
دار الزمان على دارا وقاتله وأم كسرى فما آواه إيوان
فها نحن في عصر المجهر، يكتشفُ الأطباء وعلماءُ الحياة والجراثيم معجزة النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحكم، فيتبين من خلالها أن الطهارة أو النظافة كما يريد أن يسقطها عليها بعضُ القاصرين ليست مسألة يسيرة، وإنما هي مسألة معقدة وتخضع لرؤية غيبية محضة وحكم توقيفي إما بصورة مطلقة وإما بحسب الزمان واكتشافات العصور.
فلقد تبين علميًا أنَّ في لعاب الكلب جراثيمَ يفرزُها وخاصة عند الأكل أو الشرب، ومن ثم فهي مضرة بصحة الإنسان عند الملامسة وتعقب سؤره عند الشرب أو الأكل، في حين إن هذا الحكم لا ينطبق مطلقا على سؤر الهرة ولعابها، بحيث قد يدخل في حكم المطهرات، antiseptique أو désinfectant، وهذا ما نلاحظه بالعين المجردة حينما تصاب بجرح ثم تلحسه حتى تبرأ منه، بل قد تمارس غسل وجهها وأطرافها بلحسها بلعابها ....
فأين حكمُ العقل المجرد والقاصر هنا وهناك؟ ومتى كان العقل حاكمًا على قضايا الشرع حتى يصبح مقدمًا في مثل هذه المسائل؟
إن العقل المجرد المتبع لهواه لا يعطي سوى الشذوذ في باب التشريع؛ سواء كان شذوذًا عقديًا أو سلوكيًا أو جنسيًا أو غيره؛ لأنه عقل مظلم غير مستنير بذكر الله تعالى، كان من نماذجه جمهوريةُ أفلاطون التي تقر بشيوعية المرأة والأطفال، وبلزوم العري التام بين الرجال والنساء، وبالحكم الجزافي الديمقراطي من غير أخلاق أو ضوابط ومرجعيات روحية أو فكرية قارّة، وما إلى ذلك من السخافات التي سبق أن ذكرنا نماذج منها في كتابنا "حجاب المرأة وخلفيات التبرج في الفكر الإسلامي".
3) وقد سبق أن بينا في مقال لنا -عنوانه "العقل يهزم التجربة والفكر الإسلامي ينتصر! "- هذا الخللَ الفكري حينما تكون الرؤيةُ مجردةً والعقل قصيرًا، وذلك في موازنة بين الغزالي وجالينوس، وسقوط هذا الأخير في وهم التجربة الناقصة التي ولدت له عقلا ناقصا، فحكم بأن الشمس لا تتعرض للذبول أو الفناء من خلال رؤية بصرية قصيرة تعوّدها.
أما الغزالي فرأى أن الشمس تذبل وتنتقص بمقدار الجبال من غير أن نشعر بها، مستندًا في حكمه هذا على مبدأ التجويز المنطقي ومبدأ الحكم الكلي على العناصر المادية، كما كان يعبر عنه بأن: كل معدن فهو يتعرض للفساد، فالشمس من جنس المعادن، إذن فهي تتعرض للفساد (أي التأكسد بلغة كيميائية حديثة) لا محالة.
فكان أن جاء علم الفلك الحديث باستعمال المقراب (التليسكوب) هذه المرة فأكد قولة الغزالي من تعرض الشمس لانفجارات وظهور صياخد بها ونفاد بنسب معينة لطاقاتها وعناصرها ...
إن هذا الحكم المعرفي نفسه المستنير بنور الإيمان ودلالة النصوص الشرعية يمكن أن نستعمله في تناول قضايا المجتمع والسير وأحكام الحرب والسلم والقصاص وما إلى ذلك مما ورد في صحيح البخاري وغيره من كتب الصحاح المعتبرة لدى العلماء والثابتة بالمنهج الذي سبق أن بيناه في أول هذا البحث الموجز؛ لأن التشريع كل متكامل لا يمكن أن ينتقص منه حرف واحد وإلا وقعنا في الشذوذ والمهاترات التي لا تنتهي، ومن ثم في الزندقة والمروق من الدين بطريقة أو بأخرى.
اضطرارًا قد نوجز متابعتنا للموضوع، كما أوجز لنا زُفَرُ -الفقيه الحنفي- في قولته المشهورة حول مثل هذا الشذوذ الفكري والعقدي في تناول قضايا الدين بالقياس الفاسد:"إنَّ من القياس ما هو أقبحُ من البول في المساجد".
فكان الطعنُ في الأحاديث الصحيحة وخاصة صحيح البخاري من نماذج هذا القياس الملوث، بل هو أسوأ منه، فيحتاج معه إلى تطهير وتنقية فكرية وسلوكية لأدمغة مريضة ومحاطة بشتى الملوثات المتراكمة عليها بفعل التعرية وعدم الصيانة ...
فعلى مثل هؤلاء أن يتعلموا طهارة البدن والمكان أولا من صحيح البخاري، ثم يحصلوا حينئذ على طهارة الفكر والروح ليميزوا حينئذٍ بين الحق والباطل والصحيح والسقيم والسليم والفاسد ... وما أجملَها من طهارة لو اعتبروا!!! {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108].
للكاتب د. محمد بنيعيش على رابط/
http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?ArticleID=1863
ـ[بكيل]ــــــــ[05 - 01 - 08, 04:27 م]ـ
كلام في الصميم،،، فأين هم أولو الألباب
¥