تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

الأعمال العامة كتنظيف المدرسة وزراعتها ليستثير هممهم ويكون قدوة لهم. وشجعهم ودربهم على أنواع الرياضة وأخذهم في رحلات في القرى المحيطة وفي وادي بردى، حتى صارت هذه المدرسة مثالاً لمدارس القرى.

كان معلمو القرى ينتظرون إعلان التنقلات في بداية كل عام دراسي يتأملون الانتقال إلى دمشق، وكلما اقتربوا منها كلما زاد الأمل في ذلك، وكان علي الطنطاوي في سقبا في الغوطة قد اقترب كثيراً من هذا الأمل. وكانت دمشق في أواخر سنة 1933م هائجة على المحتلين الفرنسيين والناس يغلون في كل مكان منها، تعمّها المظاهرات والاضطرابات والاشتباكات بين المتظاهرين الذين لا سلاح لهم إلا الحجارة ورجال الأمن المسلحين بالبنادق. وفي تلك الأيام جاء الشيخ شريف الخطيب ابن خالة علي الطنطاوي يزوره ومعه مئتان من تلاميذ المدرسة الأمينيّة، ولقيه في طرف القرية علي الطنطاوي وتلاميذه فاجتمع التلاميذ الأربعمئة كالجيش، وأمضوا يومهم في لعب ونشاط وخطب وحماسة، فتصدى لهم رجال الدرك، فاستطاع رحمه الله أن يستميلهم ويحرّضهم على الفرنسيين فتركوا مطاردة التلاميذ وجلسوا معهم، ولكن نتيجة هذه الحادثة كانت قراراً بنقله إلى رنكوس، وهي قرية نائية على رؤوس الجبال أهلها شديدو البأس يعجزون الحكومة، ومثلها سرغايا. بعد أن اقترب من النقل إلى دمشق هاهو يُنقل بعيداً عنها إلى هذه القرية الوعرة. وزاده غيظاً وألماً أن معلماً جاهلاً كان يعرفه من أيام مكتب عنبر كان في رنكوس وكان أبوه وجيهاً ويريد نقله، فجاءتهم هذه الفرصة فجعلوه مكان علي الطنطاوي في سقبا، فآلمه أن يؤول أمر الطلاب الذين علّمهم ورعاهم هذه الرعاية لسنة كاملة إلى هذا المعلم الجاهل. ودّع التلاميذ الصغار وداع الأب لأبنائه وأوصاهم وصيته الأخيرة وغادرهم محزوناً وهم واجمون دامعون.

وكان النقل في الشتاء، فحزم متاعه وبدأ رحلته إلى رنكوس، وكانت الثلوج قد سدت الطريق فلم تبلغ السيارة إلا نصفه، فأكمل الطريق في الجبل مشياً على قدميه وسط الثلوج والبرد القارس ساعتين ونصف حتى وصل القرية، فعجب أهلها الأشداء من الشاب الشامي الذي اقتحم الطريق الصعب ماشياً في هذا الوقت، وعلم منهم أن الحكومة لم تستأجر مقراً للمدرسة وسمع منهم شتماً للحكومة يليق بأهل رنكوس الأشدّاء. وبما أن المدرسة لم تفتتح فلم يكن لديه ما يعمله، فقابل حفاوة أهل القرية واجتماعهم له بخطبة حيّا فيها رجولتهم واستثار إيمانهم ووطنيتهم وحثهم على العلم ليرتقي به أبناؤهم. وتطوع أحدهم فحمله بسيارته إلى صيدنايا، وانتهى بذلك عهد رنكوس القصير.

ورجع إلى الوزارة وأخبرهم خبر مدرسة رنكوس التي لا وجود لها فأعطوه إجازة شهر ثم نقلوه إلى زاكية، وهي قرية في حرة ذات حجارة بركانية كبيرة وأرضها صخرية. وبقي يدرس فيها تلك السنة حتى كانت رحلته إلى الحجاز.

أثناء تدريسه في القرى حصل علي الطنطاوي على شهادة الإجازة (الليسانس) في الحقوق، بعد أن اعترضته صعاب كثيرة على مدى السنوات الأربعة التي أمضاها في الكلية، كان أبرزها دفع أقساط الجامعة، وكان آخر تلك الصعاب تدبر مبلغ رسم الشهادة وهو أربعين ليرة، فأقرضه المبلغ الشيخ عبد القادر العاني وحصل على الشهادة سنة 1933م.

وفي ساعة ضيق بعد تخرّجه كتب مقالة عنوانها "شهادة ليسانس للبيع" عرض فيها بيع شهادته بالتكلفة، كان لها صدى واسع وعلق عليها كثيرون.

في تلك السنة أُنشئ المجمع الأدبي بمبادرة من منير العجلاني، وكان الذي اقترح الاسم علي الطنطاوي، موازياً للمجمع العلمي الذي صار فيما بعد مجمع اللغة العربية.

وفي نفس السنة أنشأ الزيات مجلة الرسالة في مصر، وبدأ علي الطنطاوي يكتب فيها دون أن يلتقي به، وصار له فيها مكانة، واقترب فيما بعد من الزيات الذي صار له بمنزلة الأب أو الأخ الكبير.

وفي أواخر سنة 1934 أصدر كتاب "أبو بكر الصديق" الذي كتبه بطلب من الأستاذ أحمد عبيد أحد أصحاب المكتبة العربية الذي دفع له عن حقوق التأليف ثلاثين ليرة وكان راتبه يومئذ ستاً وثلاثين ليرة.

رحلة الحجاز:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير